تشهد جامعاتنا ومؤسستنا العلمية حركاً متسارعاً غير مسبوق يتمثل في حفز وتشجيع الشركات والمؤسسات والوجهاء ورجال الأعمال والموسرون لتبني كراسي علمية في فنون وعلوم تطبيقية ونظرية وبرامج اجتماعية تعود بالنفع والفائدة على الأمة وتسهم بفاعلية في دعم البحث العلمي والارتقاء بمستوى العلماء والباحثين والمتفحص لتاريخنا التليد يجد ان هذه الكراسي العلمية ليست وليدة اليوم كما أنها ليست من ابتكارات الغرب الذين أحسنوا الإفادة منها وطورها بشكل ملفت فالتاريخ يشهد بأن هذه الكراسي العلمية تأتي امتداداً لما أوقفه الموقفون من أسلافنا على كراسي علمية خصصت لمدارس يدرس فيها علوم ومناهج علمية وفق ما نص عليه الواقف، فمن ذلك وقف الشيخ مهذب الدين عبدالرحيم بن علي بن حامد (565-627ه) شيخ الأطباء بدمشق الذي أوقف داره بدرب العجل بالقرب من الصاغة العتيقة لتكون مدرسة يدرس فيها من بعده صناعة الطب ووقف لها ضياعاً وعدة أماكن يستغل ما ينصرف في مصالحها، كما وجدت أوقاف على هيئة كراسي علمية متخصصة في تدريس المذاهب الفقهية المختلفة فقد أوقف صلاح الدين الأيوبي مدرسة بمصر متخصصة في تدريس الفقه المالكي ووقف عليها أراضاً من الفيوم تغل القمح فسميت بالمدرسة القمحية. كما أورد ابن كثير - رحمه الله - في حوادث عام 631ه ان فيها كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد التي شيدها الخليفة العباسي المستنصر بالله، ووقفت على المذاهب الأربعة من كل طائفة اثنين وستين فقيهاً وأربعة معيدين، ومدرساً لكل مذهب، وشيخ حديث، وقارئين وعشرة مستمعين وشيخ طب وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب ومكتبة للأيتام، ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها، وقد تغير اسمها من المدرسة المستنصرية إلى الجامعة المستنصرية وكانت تستقبل الطلبة من مختلف الأقطار العربية للدراسة فيها، ولكن توقف هذا مع دخول قوات الاحتلال الأمريكي للعراق. فهذه النماذج المشرقة من تاريخنا الوضاء تبين بجلاء ان مؤسسة الوقف تعد الشريان الرئيس لتأمين الموارد المالية التي تضمن - بإذن الله - نهوض الأمة وتطورها وازدهارها. ومن خلال هذا يتبين لنا أن الأمة الإسلامية هي صاحبة الريادة والسبق في مجال نشر ثقافة الكراسي العلمية الوقفية يشهد بذلك المستشرق «بيرناردو لويس» الذي صرح بأن الغرب استعار فكرة الوقف من المسلمين في أوج حضارتهم بعد القرن السابع عشر الميلادي. والمؤمل ان تتسابق الشركات والبنوك ورجال الأعمال وأهل البذل والاحسان في إنشاء ودعم وتطوير فكرة الكراسي العلمية الوقفية المتخصصة التي لها دور فاعل في خدمة العلم وتحفيز العلماء والباحثين على مواصلة مسيرتهم الخيرة نحو الإبداع والابتكار في كافة المجالات والميادين التي تعود بالنفع والفائدة على الأمة. *باحث في مجال الأوقاف