قصائد مجموعة "هدى" للشاعر السعودي نايف الجهني تخلق في القارئ متعة هي نتيجة مزيج مما يصح ان يسمى حديثا وتقليديا في الوقت نفسه. الا ان التسميات تبدو كأنها امور لا ضرورة لها بل مفتعلة احيانا عندما يصل القارئ الى قصيدة تؤثر فيه فتحزنه او تطربه وتكاد "ترقص" مشاعره احيانا. وفي قصائد نايف الجهني نواجه شكلا يبدو لنا جديدا لكننا سرعان ما نكتشف في احيان عديدة ان هذا الشكل سطحي وان وراءه سمات تبدو اقرب الى الكلاسيكي الخطابي المنبري. انها سمة لا يتفرد بها نايف الجهني بين شعراء سعوديين. لعل فيها شيئا من المحافظة على ذلك التراث الشعري العربي الذي انطلق من بلده في سالف الايام. لكن المزيج الذي يقدمه لنا الجهني ممتع لا في موسيقاه التي اشرنا اليها فحسب بل في كثير من صوره والحالات التي ينقلها وإن خالطت كل ذلك خصائص تذكرنا بالماضي جاءت في ما قد يبدو حلة اكثر جدة. اشتملت المجموعة على نحو 70 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" في بيروت. يقدم الجهني مجموعته بكلمات تبدو غامضة المدلول الى انه يشرح في قصيدة لاحقة ما قاله في المقدمة. قال في المقدمة "الى التي اعطيتها معناي". اما كيف يمكن ان يعطي الانسان معناه للاخر فقد جاء في قصيدة لاحقة حملت اسم " اعطيتها معناي". قبل القصيدة الاولى كلام للجهني شعريّ وموحٍ في غموض جميل يقول اكثر مما يحجب وهو "لوعة الريح.. ان يكون الناي بلا ثقوب." القصيدة الاولى حملت اسم "هدى" وهو ايضا اسم المجموعة. في القصيدة هذه تقريرية ليست قريبة الى الدفء ومعان قد لا تكون في اجماليها حاملة من الجديد او الفردي ما يكفي. يقول الشاعر "وهدى: البداية/ او نهاية ربكة العمر المحنط في عروق الارض/ صحوته/ وعشب نهاره/ وكواكب الليل البعيدة/ صوتها/ وعبورها لنجوم قافية/ تسافر في فضاءات الحياة عن الارق/ وهدى: المكان اذا توهج في ركام العطر/ عمر من بقايا العمر فيّ ولا احترق.../ وهدى: السواقي لونها../ هذا الحنين اذا انتهى ورق بليل كتابة/ ومحا الوصية في كتاب العشق/ بالحبر العتيق..ولا انبثق." في قصيدة "أعطيتها معناي" عودة الى مزيد من العمق والدفء وإلى شيء من الانكسار الحلو والضروري المطلوب وسط الجلجلة الخطابية. وفيها قدر كبير من الغور في النفس والصور اللينة حيث تكون اقرب الى الذهني. وفيها ايضا من المجاز ما يتنقل ليصل الى الرمزي التام. الا انها "لم تنزل عن المنبر" نزولا كاملا. يقول نايف الجهني "اعطيتها قلبي وقالت:/ كن خفيفا كالغياب/ اعطيتها رئتي وقالت:/ حين يشربني الهواء سأنحني للريح/ اغرقها بما يدنيك من وجعي/ ويمنحك الذهاب/ أعطيتها قلمي وقالت:/ كيف تتركك الكتابة عابرا/ تصغي لذاكرة السماء بلا مدى/ اعطيتها صوتي وفاحت في الصدى صور تقول:/ بأنني ورق تبلله الحروف بغيثها/ كي لا يبوح سواه في المعنى/ ويشتعل الكتاب/ اعطيتها معناي فانبجست كورد الشكل/ في صبحي وقالت:/ كنت فاصلة ومر الوقت/ في وجعي فأصبحت الكتاب." قصيدة "حكاية" فيها خطابية ايضا وقدر من المجردات. نقرأ الشاعر حيث يقول "في البيت قهوتها تحد من المتاهة/ تحتوي لغة الهروب/ الى مكان خارج الاشياء/ تملؤه بما يكفي لحمل/ فضوله نحو الحياة/ بلا جدال او سهر/ في البيت غيرتها/ تحط على الرفوف/ كصورة تخفي الحقيقة بالصور." اما قصيدة "من روحها" فقد استطاع الشاعر فيها "تصفية" كل تلك العناصر والسمات وتحويلها -مع الاحتفاظ بقدر من ملامحها الاولى- الى نوع من الذوب العاطفي الدافئ. انها في مجموعها "صورة" تختلط فيها الوحشة والانس بحزن جميل القسمات. يقول الشاعر "هي روحك البيضاء/ موج غنائك العذري/ سيرتك البهية/ او نشيدك حين تقترب السماء من السماء/ او حين تغمرنا الغيوم بغيثها/ وتصبنا سفرا على درب تلعثم في الغناء." ولعل قصيدة "دهشة" تختزل كثيرا مما في نفس الشاعر ومن خصائص قصائد المجموعة. انها قصيدة جميلة وتقول اشياء كثيرة ويختلط فيها الحزن بالآمال السالفة والسعادة بالخيبات. يقول الجهني "الباب يهتف اذ تدق انامل المعنى/ حضورك..تقبلين/ وتفجرين الصمت في/ غمامة حلمت بأن الغيث عانقها/ وفاحت في الصدى/ وتبسمت كالصوت في ليل حزين/ الباب يهتف/ حين..حين/ حين الملامح تستحم بوجهك العطري/ تنفعل الجهات/ وتكبر الاسوار/ والاسرار/ في بيت بنينا بيته/ برفيف اجنحة القصائد/ في معلقة كتبناها هنا../ في كل زاوية هنا/ وحوارنا الليليّ يحمل قصة للعمر/ تغزل صوفها الآهات/ تنسجها بنفحة موعد/ جاءت به اللحظات من اقصى البلاد/ وأنا وأنت وبابنا تحتد في وهج السواد."