نشر أحد أطباء التخدير المصريين رسالة إلكترونية ساخرة لكنها لاتخلو من واقعية تضمنت 42 نقطة إجابة على سؤال طرحه هو ماذا يعني أن تكون طبيب تخدير؟ ومن ضمن النقاط: أن يكون أول سؤال يوجه إليك عندما يعلم محدثك أنك طبيب تخدير هو كيف ماتت سعاد نصر؟ وأن تكون أول من يدخل غرفة العمليات وآخر من يخرج منها، وأن تحسد الجراح الذي يهتم بجزء صغير من المريض بينما تتحمل أنت مسؤولية الجسد كله، وأن تكون أي نتيجة سيئة للعملية سببها جرعة بنج زائدة، وأن تتحمل أخطاء الجميع بينما أخطاؤك يتحملها المريض فقط، غير أن التعليق العلمي المتخصص ذكره استشاري التخدير في جامعة الملك خالد في معرض تعليقه على "حكاية اسمها الدكتور طارق والمستشفى" من خلال التفرقة بين الخطأ الطبي النادر وغير الخطير والأخطاء المتكررة أو الخطيرة، خاصة تلك التي تودي بحياة المريض، وأنه ليس هناك مثال أفضل من تخصص التخدير الذي يوصف دائما بالتخصص الخطير وكأنه مصدر الخطر بينما هو عكس الحقيقة العلمية تماما، ولكنه مصدر الخطر فعلا حين يتعامل معه من هم دون المستوى. النقطة الأهم التي يثيرها الدكتور هي الخلط الشائع في الكثير من التعليقات الصحفية الطبية بين الخطأ الطبي والإهمال الطبي مما يؤدي إلى تعميق الجهل الحاصل وبالتالي ضياع حقوق المرضى واستمرار تعرض سلامتهم للخطر، وفي قضية الدكتور طارق الجهني فإن الإهمال الطبي هو التعبير الأقرب لحالته وليس الخطأ الطبي، فالإهمال نوع من الاستهتار واللامبالاة، والخطأ هو ماقد يتعرض له أي إنسان أثناء تأدية عمله بالشكل المتعارف عليه علمياً، فإعطاء جرعة مخدر زائدة خطأ لكن مما استشفه الدكتور جمال من أقوال مدير المستشفى فإن إهمالا وقع لأن الطبيبة لم تستطع إدخال أنبوب التنفس في مجرى هواء المريض بعد إعطائه دواء التخدير ودواء آخر يستخدم لشل عضلات المريض لوقف تنفسه وبالتالي تسهيل عملية التنبيب ولتمكين الجراح من القيام بالعملية حتى لا تتحرك العضلات أثناء العملية مما يصعب إجراءها وكل ذلك دون الفحص اللازم لتفادي أي صعوبات ولتأمين سلامة المريض، كما أن عدم الكشف على المريض, خصوصاً المرضى مفرطي الوزن ,وعدم فحصه وفحص مجرى الهواء حيث إن صعوبة التنبيب لدى هؤلاء المرضى معروفة لزاماً لدى أهل التخصص، وكذلك عدم تجهيز أدوات بعينها للسيطرة على هذه المشكلة،وفوق ذلك إعطاء المخدر ودواء يشل العضلات، كل هذا استهتار بحياة المريض وإهمال لأبجديات التخصص، وبالتالي هو ليس خطأ، فالاستهتار الكبير أن يتم التعامل مع العمليات والمرضى وكأن النتائج أصبحت مضمونة ولا عوارض جانبية أخرى يمكن حدوثها كأن يدخل المريض في وقت متأخر ولا تجرى له التحاليل الضرورية ضمن خدمات الخمس نجوم , وأن يخدر قبل أن يفحص، بل وقبل أن يخطو الجراح إلى عتبة باب المستشفى. أخذ الخطأ الطبي لدينا سمعة سيئة وأصبح من المصطلحات الأكثر شيوعا بين الناس وصرف النظر عن الموضوع الأخطر وهو الإهمال الطبي، فالخطأ الطبي هو قمة جبل الجليد الذي يسهل رصده ومتابعته بينما الإهمال هو بقية جبل الجليد المغمور في الماء وهي التي أغرقت سفينة التايتانيك، وهذان الأمران لايختصان بالعمليات الجراحية والجرعة الزائدة في التخدير فهما في كل الأمور الصحية، فالخطأ الطبي أن يعطى المريض جرعة زائدة أو خاطئة من دواء معين أو تكون لديه حساسية منه، والإهمال هو أن لايتوفر الدواء في الصيدلية لأن موظفاً أهمل تأمينه أو تعثرت الإجراءات عند بيروقراطية موظف آخر فلم يوفر الاعتمادات المالية اللازمة له أو بقيت حبيسة المستودعات حتى انتهت صلاحيتها، فيتأخر حصول المريض على العلاج اللازم وقد يؤدي إلى وفاته، وهو بالتأكيد لايصنف على أنه خطأ طبي كما لا يمكن في العادة ضبط حالة الإهمال التي تؤدي إلى وفاة المريض وحتى لو ضبطت فنتيجتها لفت نظر أو إنذار وينتهي الأمر، ومن الإهمال الطبي أن تأتي أوراق مريض إلى المستشفى في آخر دوام يوم الأربعاء فيضعها الموظف على مكتبه ويخرج ليباشر النظر فيها يوم السبت بحجة انتهاء الدوام وقد تكون حالة المريض لاتحتمل هذا التسويف فيقضي أو تزداد حالته سوءاً، وقد يكون الإهمال في مراكز صحية أو مستوصفات لاتهتم كثيرا بالملف الطبي للمريض الذي يحتوي على تاريخه الطبي ويعالج بسجل نظيف كيوم ولدته أمه. الخطأ والإهمال لايختصان بالقطاع الصحي وحده ففي كل أعمالنا يقع الخطأ كما يقع الإهمال لكن المشكلة تكمن في أن الخطأ يسهل رصده وتسهل محاسبته فيما يكون الإهمال كغاز أول أكسيد الكربون لا لون له ولا رائحة ولكنه مع ذلك قاتل صامت، فالخطأ في إجراءات معاملة إدارية أو مالية يسهل كشفه ومعالجته لكن إهمال معاملة بالتسويف واللامبالاة وربما بضياعها فيه ضياع لحقوق الناس ومصالح البلاد والعباد التي قد تكون يسيرة وقد تكون مصيرية، وخطأ معلم في إيصال معلومة أو طريقة تدريس أو عقاب طالب يتم معرفته مباشرة لكن تهاون معلم في التدريس أو عدم إعطاء طالب الدرس حقهما لايسهل ضبطه، وخطأ الأستاذ الجامعي في بعض المعلومات أمر نادر ويسير لكن التهاون في حضور المحاضرات وعدم قراءة أوراق الطلاب والطالبات ومتابعة الأوراق البحثية المقدمة منهم يعد إهمالا متفشيا لايلتفت إليه أحد. هناك مقولة معروفة هي أن من لايعمل لايخطئ وأن الخطأ دليل على أن الشخص يعمل وتعرض له حالات يخطئ فيها بسبب سوء التقدير أو العوامل الأخرى بما أنه بشر، ولذلك تسعى نظريات تطوير الأداء إلى التقليل من كمية الأخطاء البشرية وليس لإلغائها، كما جاءت الأحاديث النبوية الشريفة لتضع الأخطاء ضمن سياقها الإنساني العام مثل " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وفي رواية "إن الله تجاوز عن أمتي" والحديث الآخر " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" وهذه الأحاديث على اختلاف في درجة تخريجها لا تُشرعن الخطأ أو تبرره ولكنها تضعه في سياق إنسانية الإنسان وآدميته، ثم جاءت الأنظمة واللوائح في مختلف التشريعات لتضع ضوابط للأخطاء ووسائل المحاسبة فيها وتضع من ضمنها بنودا لمن يثبت تهاونه وإهماله، غير أن المشكلة تكمن في طريقة الرصد ووسيلة إثبات حيث أصبح ضبطها من باب قبض الريح وحصاد الهشيم حسب تعبير الأديب إبراهيم عبدالقادر المازني.