ألا ترون معي أن بلادنا تضم أكبر عدد من الهيئات الرقابية التي يفترض فيها أن تناقش، وتجيز، وتمنع صرف المال العام في غير وجهة؟ نبدأ - مثلاً - بمجلس الشورى، ثم ديوان المراقبة العامة، ثم هيئة الرقابة والتحقيق، والمباحث الادارية والتمثيل المالي، والادارات المالية التابعة لهذا الجهاز أو ذاك، والصحافة المحلية. ومع ذلك لا يمر صباح إلا ونقرأ عموداً صحفياً أو تحقيقاً عاماً عن أكثر من حالة اختلاس وانقضاض وانتزاع وابتلاع وقفز على مناقصة حضرية وبلدية وتزويد وتشييد مرفق. والناس لا يجمعون إلا على قدر وافر من الصواب، وكأن النهب التفّ واستدار على تلك الدوائر التي ذكرتها أعلاه، والتي رافقت حراكنا الإداري منذ القدم. تلك الأجهزة قد تكون قادرة على ضبط وإثبات رشوة نقدية و«ربطات» أبوخمسمائة - أو شيء مماثل - لكنها غير قادرة على إثبات «وايت حكومي» ينقل ماء لمزرعة مدير، أو خزان منزل تحت الإنشاء، أو رافعات تعمل في مزرعة. أو عمالة فنية وغيرها مستقدمة على حساب المرفق الحكومي تعمل في «استراحة» لتهيئتها لحضور (المعزّب). والواضح لي - إن لم أتهم بالتشاؤم - أن استشراء التقصير في حق الوطن، حتى لا أقول الفساد أصبح ثقافة، أو أمراً مقبولاً ومستساغاً، وأن مراعاة مصالح الأمة والفرد والوطن والأمانة أصبحت استثناء. المتعفف أوالنزيه أصبح الآن يسمى «صحيِّح» بتشديد الياء، وهي تصغير مفردة صحيح. حتى بالمفردة المعلومة بخلنا عليه وصغرناه. لكن الكلمة «المودرن» الآن هي »ابن حلال».