بين يدي المجموعة الشعرية ( لاتجرح الماء .. ) للصديق الشاعر أحمد قران الزهراني ، بعد أن وصلتني عن طريق بشاشة روحه ..فتشكلت صباحاتي بها .. وأعلم أنني لا أضيف جديدًا حينما أعرّج قارئا على تجربة شعرية نابتة في الضوء ومتمرّسة على الصحو كتجربة الصديق الزهراني ، لكنني حتما قرأت فيها بشارة الماء ونبوءة الكلام ، ولهذا لايبدو استعراضي لها تقاطعا فنيا بقدر ماهو انعكاس على مرايا الروح واجتماع الشعراء على دهشةٍ سواء ..! في المجموعة زمنٌ لايعود ، وكان ناقصة لاتتم إلا باستكمال الحديث عنها ، قطعةٌ من سفرٍ في معاني لاتفنى ، تتجدّدُ بالشعر ، تمامًا كما يتجدّد بها الشعر فالزمن القروي الذي تندّى بإيماءات العيون لايلبث أن ينتهي رطوبةً طافحة على سطح الضوضاء فوق أرصفة المدينة ، والرسائل الفيروزية المغنّاة وداع عصفور وحيد ملأ عشه ريشا ثم رحل عنه ، حتى المناديل الملقاة على حبال المواعيد ..لفّها الزحام برياحه الساكنة ليفضي بها إلى ( وشاية الغربة ) : ( ... مرّو هنا كتبوا على الجدرانِ تاريخ الغزاة وأوغلوا في الحزنِ فوق رؤوسهم غيمٌ من البوح المعتّقِ بالسؤال حكاية الآتين من سفر النبوءةِ صور الأنثى الخطيئة والعراة الطاهرون وما استكان إلى دروبِ الغيّ من أشقاه موّال النجاةْ ...) لكنَّ ذلك الشفق الزهراني الشفيف الذى يطفح على جلد سحابة خريفية لايلبث أن يجيء في الغدِ ( صباحًا بلا أسئلة ) يفسح فيه الطريق للعبور ، مصغيًا لصوتِ أبواقٍ مسنّةٍ تشتم اليومَ فقط لتأخّره عن الغد .. الغد الميت الذي لايصحب فيه الأموات صورهم ولا هدايا عشيقاتهم : ( ... صباحًا أخطّطُ للوقتِ حين ينامُ المراؤون كي أعبر الحزنَ من شارعٍ لايمر به غير مقترف الشعر والأحجيات ومن يقرؤون " كتاب الأمير " ومن يشعرون بأن الشوارع رغم اتساع مساراتها قد تضيق بهم مثلما ضاقت الأرض بالميتين فساروا إلى حتفهم دون أن يصحبوا صورًا أو هدايا عشيقاتهم ...) وقبل أن نغادر هذا الأفق الزهراني المليء بالشجن والمبتلّ بجرح الماء حد الغرق ، لابد من الإشارة إلى تلك الشاعرية المموسقة ، أو تلك الموسيقى الشعرية ذات الملامح الخاصة ، وإذا كان قدر شعراء التفعيلة اليوم النسب لمن قبلهم ، فلعل الصديق الشاعر أحمد الزهراني ينتسب لنص التفعيلة من أول السياب حتى آخر درويش فصوته قبيلة كثيفة منهم جميعا وهذا جانب مضيء حتما في تجربتة : ( ... قمر وأنثى تستعيد ملامح الطفل المهدّد بالفطامِ وترقبُ البوح الحميم على ضفائر صوت عاشقها وتقرأ كفه فنجان قهوتهِ رجولتَهُ ومن سكنوا ومن عبروا إلى مدنٍ تحيل الروح أشرعةً وتوقد جمرها شغفا على لفح الطريق أنثى على وجلٍ تعيدُ كتابةَ الأسماء تاريخ الحروف وأغنيات ظل يرقب لحنها السمّار في المقهى العتيق ...) إييه يا أحمد .. لم نجرح الماء .. لكننا جُرحنا به ..!