ابتدأ ستيف هارفي حياته في ظل المعاناة والحرمان، وكان كل شيء يشير إلى أنه سيكون واحداً من أبناء الشوارع، ولم يكن لون بشرته سيساعده، فهو رجل أسود محدود التأهيل، غير أن السبل كلها تفتحت له، حيث استثمر موهبته الكوميدية في ترداد النكات وفي تصريف الحركات، وانطلقت حياته مع الكوميديا ليبلغ معها مكانة إعلامية ويحقق شهرة كبيرة قادته إلى أن يشرع في تقديم برنامج تلفزيوني صباحي يقوم على المحادثة، وهو ما يسمى في أمريكا ببرامج (التوك شو)، وشاع برنامجه حتى بلغ جمهوره المتابع له يومياً سبعة ملايين، ومما يعرض له دائماً هو التحدث بمشاكل النساء مع الرجال ومع الحب والحياة. كونت له ثقافة الأحاديث في البرنامج معرفة بأهم الأسئلة التي تدور في رؤوس النساء الأمريكيات في حياتهن العاطفية، وهذا ما أغراه بتأليف كتاب وضع له عنواناً مغرياً هو: تصرفي كامرأة وفكري كرجل، من منشورات (أمستاد) في نيويورك 2009، ومن أول يوم للكتاب تحققت له مبيعات عليا حتى صار الرقم الأول في قائمة النيويورك تايمز في الكتب الأكثر مبيعاً. يحمل الكتاب عنواناً إلحاقياً هو: حقيقة تفكير الرجال حول الحب والعلاقات والالتزام، مع سؤال مركزي موجه للمرأة ويدور حول قضية الكتاب: كيف ترين رجلاً وتحتفظين به، وهو سؤال اكتشف هارفي مدى حساسيته للنساء اللواتي يقابلهن في برنامجه الصباحي، ولمس كم هو حساس ومؤثر. وهذا ما جعل صفحة الغلاف تلهب شعور أي امرأة أمريكية وكثيراً من الرجال، حيث هي قضية النساء الأمريكيات - كما هو حدس المؤلف وخلاصة تجربته - وفي الوقت ذاته جاءت القضية مغرية للرجال ليعرفوا أين يضعون أنفسهم داخل هذه القضية من باب حب الاستطلاع من جهة، ومن باب التعرف على مشاعر الجنس الآخر. هذا دفع بالكتاب إلى الأمام حاملاً معه الأسئلة، وملغزاً منذ البدء بفكرة نظرية مثيرة، وهي أن تتصرف المرأة كأنثى ولكن تفكر كرجل، وهذه وصفة سحرية أولية عن الفروق الجذرية بين الجنسين (وبكل تأكيد فإن لنا ملاحظات علمية جوهرية هنا ولكن نؤجلها إلى حين)، ونقول الآن إن المؤلف قد لعب على هذه المقولة بمهارة صحفية ذكية جداً، وكعادة هذا النوع من الكتب فهو يستعين باللغة البسيطة وبالقصص والأخبار وبعرض قدرات المؤلف على الادعاء بمعرفته بخفايا المشاعر واحترامه هذه المشاعر مهما بدت ساذجة أو صغيرة أو تلقائية. وكانت مداخله تدور حول فحص بعض التصورات الأولية مثل التفريق بين الرأي والشعور، وقد صرف على هذه النقطة فصلاً كاملاً يؤسس عبره لقضيته، وركز على أن الشعور الذي يحدث بين اثنين هو الذي يصبغ أحكامها على بعضهما، ويظل الرأي مخبوءاً تحت سلطة الشعور المتبادل، والطرفان يتحركان تحت قيادة شعور كل واحد منهما عن الآخر دون أن يتعرفا حقيقة عن رأي الواحد منهما برفيقه. وهذا في تصوره هو ما يسبب خيبات أمل كبيرة حينما يرتبط الطرفان تحت قيادة الشعور دون كشف لحقيقة الرأي الذي سيتكشف مع الوقت ليتفاجأ الطرفان بأنهما لا يتناسبان. هذا قاده إلى أهم فصل في كتابه، وهو الفصل الذي يركز فيه على كشف (الرأي)، والرأي في نظر المؤلف هو ما يمثل حقيقة الرجل وعلى المرأة أن تحسم أمرها من البداية لتتعرف على رأيه فيها، وذلك بأن توجه له خمسة أسئلة رئيسة ومصيرية، هي: 1- ما أهدافك القريبة...؟ 2- ما أهدافك البعيدة...؟ 3- ما رؤيتك حول العلاقة، وما مفهومك لها...؟ 4- ما رأيك بي...؟ 5- ما شعورك نحوي...؟ وينطلق من مناقشة الأسئلة هذه واحداً واحداً مع عودة للتركيز على الرابع والخامس والتفريق بينهما، أي بين الرأي والشعور، وهو في ذلك يحث المرأة على أن تحسم هذه الأسئلة أولاً وتكشف عن (رأي) الرجل في هذه الأسئلة كلها قبل أن ترتبط معه في رابطة الزواج، ووسط هذه الأسئلة ستتفرغ مواقف مهمة من مثل رأيه في إنجاب الأطفال وفي تكوين العائلة، مما هو تصور حاسم لتقرير مصير الزوجية. هذه أمور قد تبدو ساذجة في المجتمعات التي تعتمد نظام العائلة والترابط الأسري، ولكن المجتمع الغربي باعتماده المطلق على الفردية ستكون هذه الأسئلة مهمة ومصيرية وسيكون الكتاب ضرورة اجتماعية ونفسية. كتاب هارفي كتاب ينجح في مجتمع تقوم فلسفته على الحرية المطلقة للفرد بحيث يجد الفرد نفسه المسؤول الوحيد عن قراراته، وبما إنه مجتمع مفتوح فإن جدول العلاقات يكون مثل جدول الخيارات، وهنا تخترع الثقافة أوصياء جدداً وبدلاً من نصائح الجدات تأتي نصائح المؤلفين المغامرين الذين يتنبهون بحدسهم التلقائي للتعرف على دقائق الهموم الفردية فيضربون عليها، وهنا تأتي الاستجابات سريعة وشاملة لأن المشاكل الملموسة تظل حبيسة على مستوى الفرد ولا يعلم الفرد أن غيره (غيرها) يشترك في المشكلة نفسها، وإذا رأت المرأة الأمريكية - حسب حدس المؤلف - كتاباً بهذا العنوان فإنها ستتحرك مباشرة باتجاهه إحساساً منها بأنه قد لمس ما في داخل شعورها وأن فيه الحل لمشكلتها، وهي لن تقف عند كتاب واحد فقد يصدر غداً أو بعد غد كتاب آخر يكون صاحبه أكثر ذكاء ودقة في اختيار عنوان يضرب على وتر نفسي حساس، وسيكون له أيضاً مبيعات كبرى تحتفل لها النيويورك تايمز، وتظل الثقافة تبتكر بدائلها من الأوصياء. وفي الموضوع مزيد كلام، وكل ذلك حول ثقافة الاستشفاء التي هي المحرك الأبرز لثقافة الأكثر مبيعاً، كما سنتها الثقافة الأمريكية ثم تسربت للعالم كله في نسبة تتوافق دوماً مع ارتفاع انعزالية الفرد وتقلص دور العائلة، حيث تتفرد الحياة بالشخص لتعزز فرديته وعزلته، وتنشأ عنده الحاجة حينئذ لمثل هذه الكتب التي تملأ الفراغ الثقافي وتقدم نوعاً من الآباء الجدد والوعاظ الجدد. وفيما يخص كتاب هارفي تحديداً فإن ملاحظات علمية كثيرة لا بد من طرحها في نقد الكتاب من الناحية العلمية وفيه عيوب جذرية سأناقشها في إحدى المقالات التالية من هذه السلسلة - إن شاء الله -.