لو أردنا مناقشة التحقيبين اللذين قال بهما كل من الدكتور: محمد أركون, والدكتور: هاشم صالح,واللذان تكلمنا عنهما في الجزء السالف من هذا المقال,باستصحاب المعيار الغربي: القطيعة الفكرية ما بين نظام فكر عقلاني وآخر خرافي,لرأينا أن كلاً منهما يقر بأن نظام الفكر العربي الإسلامي قد دخل في مرحلة تيه مستمرة منذ أن تم تحييد,أوعزل النظام الفكري الذي جاء به الإسلام غضاً طرياً كما نزل, وأن كلاً منهما يقر,ضمنياً على الأقل,أن العصر العربي الإسلامي الحالي لا يختلف من حيث نظام التفكير,ومن حيث منظومة القيم,عن عصر عرب الجاهلية.إذ إن المسحة "التحديثية" التي يعتقد العرب أنها مست جانبهم الثقافي,لم تمس إلا القشرة السطحية منها فقط,كما يظهر من تعاملنا اليوم مع أحدث تقنيات العصر التي لا يد لنا فيها,مع رفض تام للنظام الفكري الذي يقف خلف إنتاجها. والبقاء أسرى لنظام فكري مبهور بالطابع الغيبي الخرافي الأسطوري,ذلك الطابع الذي جاء العصر الغربي الحديث,عصر الحداثة والعلم, ليقطع معه,وليحل محله التفكير العلمي الفلسفي الذي ينظر للكون, وللعالم بأجمعه, على أنه يسير وفق نظام ضروري دائم ثابت لا يتخلف أبدا. وأول نتيجة نسجلها من مناقشة التحقيبين السالفين أنه ليس لدى العرب والمسلمين ما يمكن أن يعتبروه عصراً, أو عصوراً وسطى عربية أو إسلامية,لأنهم لا يزالون يعيشون نفس المرحلة التي انفصلت عن العصر الأول:عصر العقد الاجتماعي النبوي,ولم يقطعوا معها بعد,وبالتالي فلا يحق لهم أن ينسبوا أي سلوك أو تفكير ينبذونه ل"العصور الوسطى" لعدم تكونها بعدُ في السيرورة الزمنية والفكرية الخاصة بهم,كما حصل عند الغرب. ولعل أهم مظاهر أو سمات العصور الوسطى التي قطع الغرب,بحداثته الظافرة, حبل السرة معها ما يتصل بالنظرة إلى النظام الذي يسير الكون والعالم أجمع,فالنظرة"القروسطية" للكون, والتي قطع الغرب معها فكرياً,كانت محكومة ب"الجواز,أو التجوز",بمعنى أنه(=النظام الكوني) ليس ضرورياً ولا ثابتاً ولا دائما, وبالتالي يمكن"خرقه"بسهولة بكرامة أو معجزة لولي أو قطب أو كاهن أو كردينال!. هذه النظرة"التجوزية" للنظام الكوني استتبعت,ولا بد, كثيراً من الخرافات التي يأتي على رأسها الإيمان ب"القدرات" الغيبية والسحرية لآحاد الناس, و"القادرة" على تغيير,أو تعديل مسار,أو إيقاف نظام الكون, وهذه النظرة"التجوزية"مثلما قطع الغرب معها منذ عصر الأنوار,فهي لا تزال تتحكم ببنية النظام المعرفي للثقافة العربية الإسلامية. ومن أبرز مظاهر تلك النظرة الخرافية,والتي تضرب بسهم وافر في بنية نظام الثقافة الإسلامية, ما يتصل بما يُعتقد من قدرة "العائن" أو "الساحر" على تحديد هدفه من البشر أو الحيوان أو الجماد, ثم إصابته بدقة تتفوق على دقة أعظم الحواسب الإلكترونية!. وتعظم مصيبة هذه الثقافة وما أكثر مصائبها عندما تنسب تلك الخرافات إلى الدين في نصوصه المقدسة, فهنا يصبح الأسر مضاعفا. أما كيف تُنسب تلك الخرافات إلى الدين,فذلك يتم باستصحاب نصوص معينة,إما أنها يجب أن تُقرأ في معرض سياق الإخبار,إخبار القرآن بالذات,عن من كانوا يؤمنون بتلك الخرافات من منطلق ثقافي خاص بهم,أو أنها لا تدل على ما يراد منها من معاني خرافية إلا بتأويلها تأويلاً يخرج بها عن المعهود اللغوي العربي!. ويزيد الطين بلة على ابتلاله إذا كانت تلك الخرافات تُدرَّس ضمن المناهج الرسمية المقررة على طلاب في عمر تفتح العقل وجاهزيته للبرمجة,إن عقلانية فعقلانية,وإن خرافة فخرافة!.جاء في مقرر التفسير للصف الثاني المتوسط,(طبعة عام 1430ه !),عند تفسير قوله تعالى: "وإن يكاد الذين كفروا ليُزلقونك بأبصارهم لمَّا سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون",أن معنى:يزلقونك بأبصارهم,أي"يصيبونك بالعين", وذلك لإثبات أن قدرة "العائن" على إصابة هدفه حق أثبته القرآن!,رغم أن معنى الآية,كما قال إمام المفسرين:أبو جعفر بن جرير الطبري,هكذا:"وَإِنْ يَكَاد الَّذِينَ كَفَرُوا يَا مُحَمَّد يَنْفُذُونَك بِأَبْصَارِهِمْ مِنْ شِدَّة عَدَاوَتهمْ لَك وَيُزِيلُونَك فَيَرْمُوا بِك,عِنْد نَظَرهمْ إِلَيْك غَيْظًا عَلَيْك, كَمَا تَقُول الْعَرَب:كَادَ فلان يَصْرَعنِي بِشِدَّةِ نَظَره إِلَيَّ".وحتى في حالة تفسير الآية على أنها محاولة من زعماء قريش,لإصابة النبي صلى الله عليه وسلم ب"العين",فإن ذلك المعنى مما يجب أن يُحسب على تلك السياقات النصية التي يورد فيها القرآن مقولات أو آراء أو قناعات أو معتقدات(قارة) في وعي من يتحدث عنهم. لكنه,أي القرآن,وهو يوردها في سياقها الخاص,لا يتبناها. فالنصوص المقدسة,وعلى رأسها القرآن الكريم,تعبر,من جانب,عن مكونات وجذور الثقافة التي نزلت في محيطها, ولولا ذلك لما صدَّق بها من أنزلِت فيهم. كما تعمل,من جانب آخر,على تغيير أو تعديل بنية تلك الثقافة لتكون قادرة على حمل الرسالة الجديدة التي نزلت أساساً من أجلها. وبالتالي فالقرآن الكريم وهو يتحدث عن محاولة قريش إصابة الرسول ب"العين" على فرض قبول تفسير الآية على أنها تعني ذلك لا يعني أن القرآن يتبنى مقولة (العين) أو يقرها,بقدر ما يتحدث عنها كمكون ثقافي من مكونات ثقافة عرب شبه الجزيرة الذين نزل فيهم. وهناك الكثير من المقولات التي تؤكد سياقاتها بشكل لا لبس فيه أن القرآن يوردها في معرض استعراض المكونات الثقافية لمن يتحدث عنهم,بدون أن يكون,أي القرآن, متبنياً لمضامينها.نجد مثلاً لها في إخبار القرآن عن ردة فعل عزيز مصر عندما علم بمراودة زوجته للنبي يوسف عليه السلام عن نفسه بقوله,كما حكى القرآن عنه,:" فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم" فالقرآن هنا يورد رأي عزيز مصر بالنساء بأنهن ذوات كيد عظيم, لكنه موقف لا يعبر عن حكم القرآن فيهن.لكن من يخلطون بين السياقات التشريعية والسياقات القصصية يجعلون ذلك حكماً للقرآن, ويزيدون على ذلك بإيراد آثار موضوعة أو ضعيفة من قبيل ما يروون من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن كيد النساء أعظم من الشيطان لأن الله تعالى يقول:(إن كيد الشيطان كان ضعيفا)",وذلك لتمرير النظرة التوراتية للمرأة,والتي تصورها بصورة الشريرة الغادرة الخائنة. وهي نظرة دبجتها التوراة على خلفية إيرادها لأسطورة إيقاع حواء بآدم بخطيئة الأكل من الشجرة !. ومثلها ما حكى الله تعالى عن أم مريم بنت عمران عندما نذرت إن رزقها الله ولداً ذكراً أن تهبه لخدمة المعبد الإسرائيلي, فلما رزقت بأنثى اعتذرت عن عدم قدرتها على الوفاء بنذرها, بقولها,كما حكى القرآن عنها,:"رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى" فهنا,أيضاً,يحكي القرآن عن ثقافة بني إسرائيل آنذاك التي لا تساوي بين الذكر والأنثى, ومن ضمن مظاهر عدم المساواة عندهم عدم سماحهم للنساء بالعمل بالمعابد الدينية كالذكور!. وعلى هذا المنوال,يمكن تفسير تلك الآية التي تتحدث عن"زلق"زعماء قريش للنبي بأبصارهم,على فرض جواز تفسير تلك الآية بالإصابة ب"العين" . رغم أنه لا منطوق تلك الآية ولا مفهومها ولا سياقها يسمح بتمرير معناها إلى الإصابة ب"العين".إذ نجد ابن منظور يشير,في لسان العرب مثلا, إلى أن من ضمن معاني مفردة(ز,ل,ق) "نحاه عن مكانه". مما يعني أنه يمكن تفسير الآية بأن زعماء قريش,كانوا يحاولون,من خلال النظرات الشديدة الحادة الغاضبة للنبي,أن يزيلوه عن مقام النبوة. من جانب آخر,فإن الاعتقاد بقدرة العائن أو الساحر على إصابة غيره بالمصائب المتعددة,من أبسط أنواع المرض مروراً بأشدها إلى الوفاة !,لا بد وأن يؤدي بصاحبه إلى الإقرار,بلسان الحال طبعا, بواحدة من اثنتين:إما الاعتقاد بأن العائن أو الساحر قادر على إصابة هدفه مباشرة, وهو لا ينفك عن أن يكون إقراراً على أن ثمة متصرفاً غير الله يتصرف في خلقه من دونه, تنزه الله تعالى عن ذلك, وإما أنه تعالى يصيب "المنفوس" أو "المسحور" بواسطة العائن أو الساحر,وهو يعني,من جهة أخرى,أن ثمة متصرفاً آخر يشارك الله تعالى في التصرف في ملكه, وكلا الأمرين شرك أكبر!.أما ما يوردونه من أحاديث عن العين أو السحر,فنستطيع إيرادها هنا وتفنيد أسانيدها واحداً بعد الآخر,لكننا نكتفي, بدلاً من ذلك, بالقول إنها لا تعدو,على فرض صحة أسانيدها, أن تكون أحاديث آحاد,وأحاديث الآحاد لا تثبت بها العقائد. وأعظم أركان العقيدة الاعتقاد بوحدانية الله تعالى في التصرف في ملكوت السموات والأرض. هذه المظاهر الخرافية,في أدنى درجاتها تخلفاً وانحطاطا,لا تزال تحدو برجال ونساء: شيوخ وعجائز,صبية وشبان, جهلة و"متعلمين",أن يرحلوا,زرافات ووحداناً,إلى حيث مرابع من يعتقدون أنهم "يبرئون" المنفوس"ويفكون سحر"المسحور"!. حقاً لقد رجعنا, نحن العرب والمسلمين,على أعقابنا بعد إذ هدانا الله إلى مرابع داحس والغبراء والبسوس, بعد نكوصنا عن ثقافة العصر النبوي التي أرادت القفز بالمؤمنين بها فوق أوهام الخرافة وعلى رأسها العين والسحر وما شابههما.لكن ما أن سطا الملك العضوض المشبع بالروح الكسروية على الخلافة الراشدة حتى أعاد الجاهلية جذعة في حياة المسلمين,مثلما راحت الجذوة النبوية تذبل رويدا رويداً حتى انطفأت نهائياً بدخولنا عصر التيه العربي إلى اليوم الذي نحسب فيه أن لنا عصوراً وسطى غادرناها بقطيعة فكرية حديثة! فصرنا نحيل إليها بالسلب ما لا نرضى من الأقوال والأعمال والسلوك والمعتقدات!.