وأخيراً نجحت قمة المناخ في كوبنهاغن في الوصول إلى اتفاق حول معالجة مسألة الاحتباس الحراري وإيجاد صيغة مقبولة من جميع الأطراف الفاعلة في الحوار حول معالجة التغييرات المناخية.والزمن وحده هو الذي سيثبت مدى فاعلية هذه الاتفاقية أو قدرة الدول على الالتزام بها. وتعود بداية الجهود العالمية حول الموضوع إلى قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو عام 1992 والتي دعت لها الأممالمتحدة في سبيل صياغة نظام عالمي يستجيب لدعوات العلماء القائلة بأن العالم يتعرض إلى تغيرات مناخية بسبب انبعاث الغازات التي تسبب الاحتباس الحراري مثل ثاني أكسيد الكربون وغيرها، وإذا لم يتم تقليص هذه الكمية من الغازات المنبعثة فإنها ستسبب تغيرات مناخية غير قابلة للترميم. ولذلك فقد اتخذت قمة الأرض في ريو أربعة محاور مهمة لمعالجة المشاكل البيئية وهي: 1. تغيير أساليب الإنتاج الصناعي والتخلص من المواد السامة والمضرة مثل الرصاص في الوقود وغيرها. 2.مصادر بديلة للطاقة تحل محل المواد الهيدروكربونية (النفط والغاز). 3.الاعتماد على وسائل النقل العام للتخفيف من الازدحام وتقليل انبعاث الغازات المسببة لتلوث الهواء. 4.القلق من قلة الموارد المائية. وكنتيجة لمؤتمر ريو تم عقد مؤتمر كيوتو في اليابان عام 1997 والذي اتخذ قرارات مهمة ألزمت الدول الصناعية تقليص انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري بمقدار 5% عن مستويات 1990 وذلك في الفترة الواقعة بين عامي 2008 - 2012م. والمهم في نتائج مؤتمر كيوتو أنه اتخذ ولأول مرة معايير محددة لتحقيق التقدم في معالجة القضية البيئية. وقد التزمت الدول الأوربية واليابان بمقررات كيوتو إلا أن الولاياتالمتحدة رفضت التوقيع عليها بحجة أنها تهدد النمو الاقتصادي. ومنذ مؤتمر ريو وربما قبله وحتى اليوم لم يهدأ الجدل حول مسألة الاحتباس الحراري وآثاره المتوقعة على كوكبنا الصغير ونمط حياتنا، وما يمكن أن يكون لها من تبعات ثقيلة على حياة الناس، ذلك أن البعض يعتقد بأن الاحتباس الحراري قد يؤدي إلى نهاية الحياة على الأرض، على الأقل حياة البشر، وآخرون يبشرون بعصر جليدي قادم لا محالة إذا لم نعمل شيئاً. وكذلك يختلف الناس حول أهمية هذه القضية، فمنهم من يعدها من أولى الأولويات وآخرون يجعلونها فصلاً من فصول المؤامرة العالمية.ولست هنا بصدد الدخول في التفاصيل والأدلة حول أيهما الأصح، حيث إن ذلك ليس من اختصاصي وهو في نظري ليس على قدر كبير من الأهمية، على الأقل ليس بأهمية التفكير في رد الفعل المطلوب تجاه أحداث مثل هذه. وأخشى ما أخشاه في مسألة كهذه هو النزعة المعهودة عندنا إلى الإغراق في التحليل مع إغفال للتخطيط أو العمل.ولكي لا أقع في ذات الخطأ، فسوف أقوم بالتركيز على الدروس المستفادة وردة الفعل المطلوبة من دون الدخول في التفاصيل التي سوف أتركها لغيري. ولعل من أهم القضايا التي أود ذكرها هنا في سبيل تحديد ردود الفعل المطلوبة الأمور التالية: 1.لا بد من الاعتراف المسبق بأن الحالة التي وصلت إليها البيئة لم تأت من فراغ وإنما هي نتيجة الطريقة التي تم بناء الحياة البشرية عليها، وخصوصاً منذ الثورة الصناعية وحتى اليوم، والتي قامت على قيم خاطئة ومدمرة للحياة مثل الجشع والطمع والتبذير والنزعة الشديدة نحو اللهو. كل هذه القيم لا تنم عن أدنى التزام بالأمانة التي حملها الإنسان أمام خالقه. ذلك أن من خصائص الحياة أن الله خلق الخلق ونظمه بحسب قوانين ونواميس تحكمه، وأن سعادة البشر تحقق عندما تتم صياغة الحياة حسب السنن الإلهية، أما أذا انحرفت الحياة عن السنن الربانية كان الخراب والدمار، "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم- 41)". ومن هذه السنن الربانية سنة التوازن، "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (الحجر-19)". وقوله تعالى "إنا كل شيء خلقناه بقدر". ومما لا يختلف عليه اثنان أن الكثير مما أنتجته الآلة الصناعية من عدد وأدوات كانت الغاية منها توفير أقصى درجات المتعة والثراء للبعض ومن دون أدنى التفات إلى الآثار البعيدة على الإنسان والبيئة. ولذلك فواجب الجميع اليوم العمل سوياً على وضع نهاية لعملية الإهدار والإسراف في الموارد الطبيعية، وعملاً بسنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه الذي نهى عن الإسراف فقال "لا تسرف ولو كنت على نهر جار".إن العالم اليوم أحوج ما يكون إلى إبدال القيم التي قامت عليها النهضة الصناعية وإحلال قيم المسؤولية الاجتماعية والعمل المشترك والتعاون على البر بدلاً من قيم الإسراف والجشع والتبذير. 2.هنالك تخوف وخصوصاً من قبل الدول الصناعية الصاعدة مثل الصين والهند من أن السياسات البيئية المطروحة على طاولة المفاوضات وخصوصاً ما يتعلق منها بتحديد مستويات محددة لكميات الغازات المنبعثة من كل دولة وإلزام الدول بهذه المستويات وفرض عقوبات على الدول المتجاوزة بالإضافة إلى فسح المجال أمام الدول التي تنتج أقل من الكمية المتاحة من أن تبيع الفائض للدول المتجاوزة مقابل مبالغ محددة. ويعتقد البعض أن هذا النظام سوف يؤدي إلى إعاقة التقدم الصناعي في هذه الدول. ولذلك فنحن بحاجة إلى دراسة معمقة لهذه السياسات وآثارها البعيدة على عملية التنمية وعلى مكانة الدول المصدرة للنفط في المجموعة العالمية. 3. أهم الأولويات التي يجب أن ننتبه إليها هي التفكير الجدي في إحداث نقلة اقتصادية من اقتصاد قائم على إستخراج وتصدير البترول الخام إلى اقتصاد قائم على إنتاج وتصنيع البترول بحسب أعلى المواصفات الصناعية والاستثمار في بدائل الطاقة. أن عملية التصنيع توفر أمرين في غاية الأهمية، أولهما رفع القيمة التصديرية للصادرات من المنتجات البترولية وثانيهما توفير فرص عمل كبيرة لليد العاملة المحلية. إن هذه النقلة إذا أريد لها النجاح يجب أن توازيها نقلة ثقافية واجتماعية لتشجيع الشباب من أبنائنا على التوجه نحو العمل في المصانع في مقابل ترك الرغبة في طلب الوظائف المريحة في قطاع الدولة أو قطاع الخدمات، وترك الأعمال اليدوية والهندسية للعمالة الأجنبية. بالإضافة إلى بناء المعاهد التأهيلية في دول المنطقة لكي توفر العمالة العربية المؤهلة لبناء الاقتصاد الصناعي والمعلوماتي المطلوب. 4. وهذه تقودني إلى النقطة التالية، ألا وهي ضرورة الاستثمار في العنصر البشري، وأعني بذلك الاهتمام بإعداد الشباب من أبنائنا الإعداد الصحيح لقبول الانخراط في مجالات العمل الصناعي والصعود إلى مستوى التحدي الذي سوف يواجههم في المستقبل القريب إذا ما أريد لهم التنافس في مجالات الاقتصاد العالمي وما توفره المجتمعات الأخرى المنافسة من وفرة في العمالة المؤهلة وبأقل كلفة. وهذه في اعتقادي بحاجة إلى دراسة وافية تهدف إلى إيجاد الوسائل والسبل التي تؤدي إلى إقناع المجتمع -وخصوصاً الشباب- بأهمية الإيمان بمثل هذه التحولات، التي لا أعتقد أنها من السهولة بمكان، خصوصاً إذا ما تذكرنا الكم المتراكم والإرث المتوارث من الأساليب التعليمية التي تركز على حفظ المعلومات وتعد الطالب للعمل المكتبي ولا تعلمه الإبداع وإتقان الحرف اليدوية. 5. إن اقتصاد أية دولة من دولنا مهما كبر لن يكون كافياً لأن يقف ويستوي على سوقه بنفسه، وذلك لصغر القاعدة الاقتصادية التي تحد من قدرته على المنافسة أمام اقتصاديات كبيرة جداً مثل الاقتصاد الأمريكي،الاقتصاد الأوربي، الاقتصاد الصيني والاقتصاد الهندي أواقتصاد اليابان ودول آسيا. إن هذه المجاميع الاقتصادية سوف تكون لها قدرات كبيرة ومتنوعة على التنافس وإغراق الأسواق إن شاءت، ولذلك فالمطلوب هنا هو توسيع القاعدة الاقتصادية في المنطقة وذلك بتفعيل الإقتصاد العربي المشترك. أن هذا الأمر لم يعد من نوافل القول وإنما صار من أولى الأولويات بالنسبة لنا جميعاً ولما يمكن أن توفره هذه القاعدة العريضة من فرص التنويع الاقتصادي المطلوب والموارد المائية والزراعية التي توفر الأمن المائي والغذائي للجميع. وفي الختام إن مسألة البيئة والتغيرات المناخية والسياسات المترتبة عليها قضية في غاية الأهمية وهي فرصة من الممكن الاستفادة منها لإعادة هيكلة اقتصاديات دول المنطقة. وإن هذه القضية لابد من أن تأخذ الحيز المطلوب من اهتمام صناع القرار في بلادنا وعلى أعلى المستويات، ذلك لأنها مرشحة لإحداث تغييرات جذرية في العلاقات الدولية، وأول ما نبدأ به هو الفهم الصحيح لهذه السياسات ووضع الاستجابة المطلوبة التي تهيئ الأجواء لما هو آت. * سفير جمهورية العراق في الرياض