لقد تعدّدت وتداخلت العوامل والمؤثرات والأسباب الداخلية والخارجية الموضوعية والذاتية.. السلمية والعسكرية التي تسببت في إطالة أمد المواجهة مع عصابة التمرد والإرهاب الحوثية التي اعتمدت حرب العصابات أسلوباً في تمردها المسلح.. والقيام بالاعتداءات الوحشية ضد المواطنين الأبرياء وفي الاعتداء أيضاً على النقاط الأمنية وأفراد القوات المسلحة والأمن وقطع وتلغيم الطرق والعبث بالأمن والاستقرار في محافظة صعدة وحرف سفيان.. والهروب إلى الأمام من خلال قيامها بالاعتداء على سيادة المملكة العربية السعودية الشقيقة. وهنا نشير إلى بعض الأسباب والمعوقات الميدانية لهذا التأخير في ضوء الإستراتيجية الحربية التي يجري تنفيذها على الأرض: أولاً: الإستراتيجية العسكرية للعصابة الحوثية: ظهرت الحوثية في الواقع الوطني كعناصر عقائدية إرهابية متطرفة انتهجت أسلوب التمردات العسكرية المسلحة ضد الدولة خياراً استراتيجياً وحيداً لتحقيق مشروعها السياسي السلالي الطائفي الإمامي بأجندته الخارجية المعادية للوطن، وهو مشروع يتجاوز في أهدافه وأبعاده وتطلعاته المذهبية الجغرافيا اليمنية نحو الإطار الإقليمي، ولهذا جاء البناء التنظيمي والفكري والعسكري لهذه العناصر ملبياً لحقيقة الأهداف والأدوار المرسومة له كتنظيم عقائدي سياسي عسكري على الصعيد الوطني والإقليمي في الحاضر والمستقبل وبما يمكنه من البقاء والاستمرارية مثل غيره من التنظيمات الراديكالية المتطرفة، جرى تشكيل الخلايا التنظيمية العسكرية لهذه العصابة الإرهابية من أوساط الفتية والشباب الذين تعرضوا لعمليات غسيل مخ داخل المساجد والمدارس الدينية، قبل إعدادهم وتدريبهم وتسليحهم وتنظيمهم من قبل خبراء عسكريين وعلماء دين على درجة عالية من المهنية والكفاءة، استخدموا الفتوى والخطاب الديني التضليلي سلاحاً رئيساً في تحويل هؤلاء الشباب إلى آلة وحشية للقتل، ومحاربين عقائديين مؤهلين من الناحية الفكرية والبدنية لتنفيذ أية واجبات قتالية توكل إليهم.. واستعداد كامل لتحمل المشاق الكبيرة والتضحية بالنفس في سبيل ذلك. هؤلاء شكلوا النواة الأساسية لطابور المقاتلين الذي سرعان ما نما تعداده باستقطاب المزيد من الشباب المغرر بهم لقتال الدولة تحت تأثير الخطاب السياسي الديني المذهبي لهذه العناصر أو من أوساط المرتزقة المأجورين الذين قدموا من مناطق مختلفة للقتال في صفوفهم مقابل المال. جرى تشكيل الأساس القاعدي الفكري لهذه العصابة وإعداده العسكري والمعنوي ضمن مجموعات صغيرة في مناطق وعرة يصعب الوصول إليها داخل صعدة وخارجها، كما تم بناء خلايا معدة لتنفيذ مهام وواجبات عسكرية غير قتالية مهمتها الترويج لفكر هذه العناصر الضالة.. واستقطاب الشباب والأطفال وجمع الأموال وتوفير المؤن والأسلحة والذخائر وتخزينها في مخابئ سرية أو نقلها إلى الجهات المحددة لها. وتعتمد هذه العناصر في صراعها مع الدولة أسلوب حرب العصابات، وهذا يعتبر أحد أخطر أشكال الحروب التقليدية عبر التاريخ وأطولها زمناً، وأكثرها قدرة على التوسع والحركة والانتشار وأكثر تكلفة في الخسائر المادية والبشرية، وهذه الحرب يلجأ إليها الطرف الأضعف مادياً وعسكرياً بهدف التغلب على خصم قوي عندما تكون المجابهة النظامية في غير صالحه، وتكمن قوة الخصم وفاعليته في هذه الجولة السادسة من المواجهات العسكرية في قدراته على استخدام وتطوير الخداع والحيل الحربية والمرونة والقدرة على الحركة السريعة، والتوظيف الأمثل لمناعة ووعورة الأرض، وإجبار قطاع كبير من السكان للتعاون معه تحت تهديد السلاح.. وارتكاب جرائم القتل والاختطاف لمن يرفض الانصياع له.. ومعرفته الجيدة بمسرح العمليات العسكرية، مجمل هذه الأمور لها أثر كبير في إطالة أمد الصراع وتعقيد عملية الحسم، ولم يحصل في التاريخ أن تمكنت قوة نظامية أجنبية مهما كانت قوتها وتعدادها من حسم أي حرب عصابات لصالحها في دول غير دولها (نماذج معاصرة للحرب في أفغانستان، وحروب الدول الاستعمارية ضد حركات التحرر الوطنية). أما الصراعات الداخلية فيطول أمدها كثيراً وهناك نماذج معاصرة كحروب الجيش السري لانكي ضد نمور التاميل، والحرب في جنوب السودان. تم إعداد وتدريب عناصر التمرد والإرهاب الحوثية على فنون حرب العصابات من قبل مختصين وخبراء في هذا النوع من الحرب، واكتسبت على مدى السنوات المنصرمة من الصراع خبرات وتجارب عملية وقتالية وتنظيمية وإدارية لا يستهان بها، وتمكنت من بناء شبكات أنفاق وخنادق دفاعية، وشبكات طرق سرية متشعبة. كما أن الإستراتيجية الحربية لعناصر التمرد والإرهاب الحوثية خلال هذه المواجهات استندت على قاعدة الاستثمار والتوظيف الحربي الأمثل والناجح لمسرح عملياتها العسكرية ومكوناته الطبوغرافية والديموغرافية. الطبوغرافية للمسرح العملياتي: الطبيعة الجبلية وسلاسلها الوعرة ومنحدراتها الشاهقة وغطاؤها النباتي ومغاراتها الطبيعية وشعابها وأحراشها وفرت حماية وحصانة قوية لأفراد هذه العصابة والحفاظ على قوتهم الذاتية، لأن معرفتهم بهذه التضاريس ومسالكها وكهوفها ساعدتهم على الحركة والتمويه والتخفي ومكنتهم من السيطرة والتحكم على منافذها وطرقها الرئيسة وتنفيذ مختلف فنون حرب العصابات في تنفيذ الإغارات والحرب المتحركة وتوسيع مناطق المواجهة وقطع وتلغيم الطرق والمساحات الترابية واتخاذهم من المواطنين دروعاً بشرية لهم يتمترسون وراءها وممارسة اعتداءاتهم من خلفها، إلى جانب استثمار الطبيعة الجغرافية الوعرة في إقامة القواعد الأمنية وإحاطتها بسياج دفاعي قوي ثابت أو متحرك، وكذلك بناء المستودعات الحصينة في الكهوف والمغارات الجبلية. إن الطبيعة التي يتحصن فيها الخصم تقاتل إلى جانبه.. وتحول دون توفر الظروف المواتية لحركة القوات النظامية واستخدام الآليات والمعدات العسكرية وجعلها فريسة سهلة المنال لنيران القناصة المتخفين والمتفجرات والألغام والعوائق الطبيعية والصناعية، ففي مثل هذه الطبيعة الطبوغرافية تكون السيطرة العسكرية أكثر تكلفة وبحاجة إلى أعداد ضخمة من القوات (بشرية ومادية) وتوزيعها ضمن مسرح عملياتي واسع يشمل مختلف السلاسل الجبلية ضمن جزر معزولة عن بعضها البعض مما يضعف فاعليتها ويجعلها هدفاً سهلاً للإغارات والعمل خلف خطوطها وقطع طرق إمداداتها.. ومهاجمتها في المكان والزمان المناسبين للخصم، وجعلها على الدوام تعيش حالة من انعدام الأمن والقلق وتحت تأثير ضغط عسكري ونفسي ومعنوي، الأمر الذي يجعل الخصم محتفظاً بزمام المبادرة والقدرة على إدارة العمليات الحربية بالوسائل والأساليب والإمكانات التي تناسبه وتنفيذ الاغارات والدوريات والكمائن والاغتيالات وصولاً إلى قصف ومهاجمة المواقع المنعزلة ومحاصرتها بقوة كبيرة بهدف السيطرة عليها. المكوّن الفكري للمسرح العملياتي: أحد أهم عناصر قوة العصابة في هذه المواجهة يتمثل في قدرتهم من الآن على صيانة وحدتهم الفكرية العقدية ومنع التشرذم وكذلك في قدرتهم على إجبار السكان للتعاون معهم سواء بالإقناع أو بالتهديد وأحياناً بالإقدام على قتل من لا يتعاون معهم.. أو قتل أحد أطفالهم وبالتالي تحويل جزء من السكان إلى قوة مقاتلة تقف إلى جانبهم خوفاً من بطشهم وانتقامهم منهم أو جعلهم دروعاً بشرية لهم يمارسون من ورائها اعتداءاتهم على القوات المسلحة والأمن، وقد تمكنت هذه العصابة خلال السنوات المنصرمة من فرض هيمنتها بشكل مباشر وغير مباشر على بعض المديريات وإخضاعها بالقوة لسيطرتها وفرض الضرائب على المواطنين وجبي أموال الزكاة، واستطاعت في بعض المناطق النائية الفقيرة والمتخلفة من تنفيذ سياستها في التغرير والتضليل للسكان وتحويل شبابهم إلى مقاتلين عقائديين محترفين. أخطر أساليب التوظيف الحربي للسكان يتمثل في انتشار أفراد العصابة في مناطق آهلة بالسكان تكون فيها الأسلحة مخفية وفي مواقع محددة ومعروفة سلفاً داخل المزارع والمنازل وبعض المنشآت الخاصة والعامة وبالقرب من الطرقات يتم استخدامها عند الضرورة في تنفيذ مهام قتالية خاصة وخاطفة من قبل مواطنين يكون بعضهم متظاهراً بالعمل وحاملاً لأدواته التي يتركها وينفذ مهمته القتالية ويخفي الأسلحة في مكانها السابق قبل أن يختفي وسط السكان، وقد أكدت الكثير من الوقائع والأحداث أن هناك مقاتلين يتسللون من دون أسلحة إلى خلف الخطوط بحيث تكون هذه الأسلحة مخزنة وينفذون أعمال الإغارات السريعة والعودة إلى مواقعهم. لقد استطاعت هذه العصابة إنشاء وحدات متحركة بالدعاية السياسية والإعلامية، ونشر الإشاعة وتنفيذ مهام تحريضية معادية للدولة وسط السكان، بهدف إرهابهم واستمالتهم للعمل إلى جانبها أو تحييدهم. ثانياً: الإستراتيجية العسكرية للجيش: تتميز الإستراتيجية العسكرية للقوات المسلحة والأمن في كونها محكومة بتشريعات وطنية وتتجلى أهميتها في الأساليب والكيفية والنوعية التي تستخدم فيها الدولة وسائلها العسكرية الملائمة في تنفيذ واجباتها ضد هذه العصابة الإجرامية المتمردة، وخوض العمليات القتالية بأساليب مدروسة من شأنها تحقيق النجاحات والأهداف المراد بلوغها بأقل قدر من الخسائر والتبعات السلبية المحتملة وبما يضمن لهذه المؤسسات الدستورية عدم الإخلال بواجباتها في حماية أبناء الوطن والحفاظ على حياتهم وممتلكاتهم وحقوقهم الدستورية المكفولة ليس فقط في أوساط سكان المناطق التي تدور فيها المواجهات ولكن أيضاً المواطنون المغرّر بهم ويقاتلون في صفوف هذه العصابة. تستند هذه الإستراتيجية على واجبات وأبعاد وطنية وإنسانية جعلتها موجهة لتحد من قدرة الخصم على تنفيذ إستراتيجيته الحربية المكرسة لتوسيع القاعدة الاجتماعية للمتضررين وتدمير المنشآت الخاصة والعامة وجعل الحرب أكثر تكلفة بالنسبة للوطن والشعب على المدى المنظور والبعيد. هذه الإستراتيجية استبعدت من قاموسها كل مفاهيم الانتقام والقتل والتدمير الجماعي والاستخدام المفرط للأسلحة والمعدات الثقيلة لتجنب -قدر الإمكان- ما تحدثه من آثار تدميرية للبيئة وللمنشآت والممتلكات العامة. على الصعيد الميداني اعتمدت القوات المسلحة والأمن أساليب وفنون حرب وتكتيكات جديدة تجمع بين متطلبات وخطط وأساليب حرب العصابات المتحركة باستخدام وحدات خاصة محدودة العدد خبيرة بالتسليح متخصصة في العمل خلف خطوط العدو وأساليب الحرب الثابتة والتقدم الهجومي البطيء والتمسك بالمواقع، والاستخدام المكثف للضربات الموجهة في العمق والمخصصة لتدمير مراكز القيادة والتجمعات العسكرية والأسلحة النارية النوعية الثقيلة ومستودعات التموين والذخائر وطرق ووسائل الإمدادات اللوجستية والاستنزاف المتواصل للقدرات والإمكانات العسكرية المادية والبشرية والمعنوية للخصم، والأهم من ذلك تجريد العدو من عوامل تفوقه ونقاط قوته، وعدم تمكينه من الإمساك بزمام المبادرة وفرض أساليبه في الحرب واستدراج القوات المسلحة والأمن إلى المسرح العملياتي الذي يختاره العدو والى حيث يتحصن بالسكان وداخل المنازل والمنشآت الخاصة والعامة، ويكون بمقدوره استخدام المواطنين دروعاً بشرية ووسائل للتمويه والتخفي والحركة. الإستراتيجية العسكرية للجيش موجهة لاستهداف الخصم دون غيره من شرائح السكان والوسط الاجتماعي الذي يعمل من خلاله؛ وذلك من خلال فرض طوق من الحصار المحكم على مصادر ومنافذ وطرق الإمدادات والتموينات العسكرية المادية والبشرية التي تأتيه من خارج الحدود أو من خارج محافظة صعدة, وتنفيذ عمل استخباراتي واسع لتفكيك خلاياه وشبكات التمويل والدعم، وهذه الإستراتيجية تأخذ بعين الاعتبار ان لا يؤثر هذا الحصار في حياة السكان واحتياجاتهم المعيشية الضرورية. هناك الكثير من الأسباب والعوامل التي تعيق الجيش من تنفيذ مهمات الحسم العسكري السريع وساهمت في إطالة أمد المواجهة, ومعظمها نابعة من اعتبارات وطنية وإنسانية، مرتبطة بخصوصية هذه المواجهة وخطورتها، ما يميز هذه المواجهة ويضاعف من صعوبة الحسم كون العدو لم يأت من خارج الحدود تسهل معرفته ومطاردته والاستخدام المكثف للأسلحة والمعدات الثقيلة لتدميره؛ فالعدو هنا فرد من هذا الشعب ويستحيل تمييزه خارج إطار المواجهة الميدانية المباشرة وفي المواقع التي يتم استدراجه إليها، فتحديد هوية وشخصية العدو قد تكون بالنسبة للجندي مهمة شبه مستحيلة في مثل هكذا حرب عصابات تدور رحاها داخل التجمعات السكانية ووسط المزارع والمناطق الجبلية الوعرة، كما لا يمكن للجندي أو القائد أن يوجه أسلحته إلى صدور المواطنين أو إلى صدر أعزل يتحرك قرب موقعه المرابط فيه حتى وإن شك أو اعتقد انه عدو، إنها حرب معقدة يستحيل فيها الإجهاز الكلي على الخصم ومحاصرته وتدميره دون أن يترتب على ذلك أضرار جسيمة بالوطن والمواطن وهذا ما لا يمكن القبول به. الحرب على الجبهة العسكرية تمثل أحد مظاهر حرب الدولة الشاملة ضد هذه العصابة على مختلف الجبهات السلمية التي تمثل أحد أهم وأقوى العناصر للانتصار الكلي في هذه المواجهة، وبالتزامن مع الانتصارات العسكرية الميدانية هناك انتصارات أكبر حجماً وأهم شأناً حققتها الدولة على مختلف الجبهات ونجحت حتى الآن في تطويق الفكر الضال لهذه العصابة وفضح زيف شعاراتها ومطالبها ومعتقداتها المذهبية الخاطئة، واحتوت الكثير من مخاطرها على المجتمع والدين وتقويض ارتباطاتها الخارجية التآمرية وأجندتها السياسية الخفية. مجمل الانتصارات التي تحققت خلال الفترة المنصرمة من عمر المواجهات على الجبهات السلمية والعسكرية تجسد بوضوح تام في وعي وطني وموقف شعبي ورسمي ناضج (محلياً وإقليمياً وعربياً) معاد لهذه العصابة وداعم لجهود الدولة وخياراتها في الحسم، لقد تجسدت بشائر النصر في هذه الحرب في كونها تحولت إلى شكل راق ومتقدم من أشكال الحروب الوطنية حيث يشارك فيها بشكل مباشر الغالبية العظمى من أبناء الوطن من خلال التطوع للقتال إلى جانب الجيش. وتنظيم حملات التبرع بالدم والأموال في كل محافظة ومديرية.. وتسيير قوافل الدعم للمقاتلين في الجبهة وقوافل الإغاثة للمواطنين النازحين في معسكرات الإيواء, هذا الموقف الموحد للجيش والشعب في مواجهة هذه العصابة تتجسد فيه أهم شروط وعوامل النصر في هذه الحرب, وهذه الوحدة والمواقف الوطنية الصادقة تعتبر الضمان القومي والأكيد لإخماد نيران الفتنة واجتثاث هذه العصابة ومنع تجددها أو تناسلها مستقبلاً. * رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية