أتابع المشهد الغارق في مائه الفائض عن التصور من على شاشة التلفزيون، فانساب في خضم المياه.. أبحث عن مشاهد أخرى فيتكرر الأسى المريب وتتشابه الوجوه.. تقترب الكاميرا كثيراً من الوجوه الذاهلة عن مكامن الدهشة، وتجتاح الجميع تلك اللمعة الخاطفة التي لا تعني سوى المزيد من الوجع. وجع يحيط بكل الأشياء والبشر، ووجع يتمحور ليكون على شكل سيارة طافية في حركة سوريالية قد لا تتكرر كثيراً.. تعود بي الذاكرة إلى مشاهد لعلها أكثر قسوة للمياه وهو تمارس جبروتها المدمر في أمكنة أخرى بعيدة، فأندهش من بلادة تلك الذاكرة التي تكتفي باسترجاع المشهد مجرداً من لحظة الوجع الأولى وملامحه المغموسة في العجز شبه الكامل.. الكارثة هنا، في مدينة جدة، أقرب إلى روحي، على الرغم من أنها تطل علي أيضا من شاشة التلفزيون، وعلى الرغم من أنني أناوشها بمجرد العيون الباحثة عن تفصيلة صغيرة للتفاؤل، لكن هذه الوجوه التي أراها الآن وهي تدفع السيول وتقاوم المياه، أعرفها جيداً مع أنني لم أشاهدها من قبل على وجه اليقين، أعني أنني أتنفس وجعها كما لو أنه وجعي، وأتحسس القلوب الساكنة في قاعها كما لو أنها صورة عن قلبي، وأحاول أن أمسح أساها كما لو أنني أمسحه عن ملامحي. أتلمس أطراف ثيابي لأتأكد من أن المياه القاسية التي تدفقت من على الشاشة فغمرت روحي قبل قليل لم تبلل ثيابي، فتفاجئني الرطوبة المتسللة إلي عبر مسامات الأسى المستفحل. أبحث عن وجه ما فيلقاني هلع طفلة مدسوس بين ثنايا "اليوتيوب " وكأن التلفزيون خشي من فتنته الباكية فاعتذر عن بث ذلك الذعر الكامد فيه. تنتابني نوبة صداع أعرفها في حالات العجز الكبير.. هذا وجعي أنا، وهؤلاء أهلي، والسيل يغرق في بقايا الحنين إلى ضحكة فلتت من تلك المدينة الساحرة عبر صورة فوتوغرافية يوماً ما.. تستمر نوبة الصداع الى ما بعد المشهد الغارق، وتبدأ الأسئلة في احتلال بقية السكينة..ويسكن الماء أخيراً..بلا إجابات.