إلى كل من يعتقد أن الدهر لم ينصفه ويمنحه الفرصة الكافية لكي يحقق شيئا نافعا في حياته, أهدي هذه الحكاية. والى كل امرأة تعيش حياتها وهي تعتقد أنها لا تمتلك من الحرية مايمكنها من أن تكون عنصرا إيجابيا في بيتها ومجتمعها, أكتب هذه السطور. والى كل إنسان يجد نفسه في ظروف صعبة, سواء كانت على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو حتى العالمي, وهو يعتقد أنه لا يمتلك القدرة على الخروج منها وتغييرها لما هو أفضل, أدعوه لتأمل هذه السطور. والى كل من يعتقد بأن التأثير الإيجابى وصناعة الحياة هي حكر على الأثرياء والقادة والفلاسفة والمشاهير من الفنانين والرياضيين, أقدم هذا المثال, ولعلنا نتحدث فيما بعد. يعود اهتمامي بمادة هذه القصة الى أيام عملي في وكالة الفضاء الأمريكية قبل سنوات عديدة, والى الفترة التي عملت في مشروع بناء أول عربة آلية أرسلت إلى كوكب المريخ, وعندما صار البحث في التسمية التي يمكن أن تسمى بها العربة, اقترح العالم والفيلسوف كارل سيغان اسم "سوجرنر" , والتسمية مأخوذة من اسم الشهرة لامرأة من الرقيق كانت ناشطة في مجال الحقوق المدنية اسمها إيزابيلا بامفري, واشتهرت باسم "سوجرنر تروث". والاسم الأول "سوجرنر" يعني الزائر أو عابر السبيل, و"تروث" تعني الحقيقة, فيصبح المعني عابر السبيل الذي يأتيك بالحقيقة. فمن هي هذه المرأة؟ وما هو الدور الذي قامت به لتحصل على هذه الشهرة والمكانة التي جعلت وكالة الفضاء تطلق اسمها على أول عجلة الى الفضاء الخارجي؟ ولدت "إيزابيلا بامفري" لعائلة رقيق عام 1797م في مزرعة هولندية في شمال ولاية نيويورك في الولاياتالمتحدة وكانت واحدة من 13 طفلا في العائلة, وكانت ولادتها قبل تحريم الرق في أمريكا. لم تكن حياة الرقيق سهلة بأي شكل من الأشكال, وكان الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون أسوأ من حياة الرقيق, هو حياة الإماء منهم. ولأنها كانت في مزرعة للهولنديين فلم تتعلم اللغة الانكليزية في طفولتها. وعندما بلغت "إيزابيلا" التاسعة من العمر بيعت مع قطيع من الغنم الى سيد جديد بمبلغ مئة دولار. طبعا لا أحد يعلم كم كان ثمنها من المائة دولار وكم كان ثمن قطيع الغنم. كانت حياة الطفلة مع السيد الجديد قطعة من الجحيم وذلك لكثرة ضربه لها, ومما زاد في الطين بلة أنها لم تكن تجيد الإنكليزية, لغة السيد الجديد, فيصعب عليها فهم أوامر سيدها مما يوقعها في العقاب. وتروي مرة أن سيدها جمع مجموعة من العصي التي ربطها بحبل لضربها, إمعانا في الإيذاء ولأن العصا الواحدة لم تكن تكفي. وجاء الفرج فيما بعد عندما بيعت بمبلغ 105 دولارات لصاحب خمارة, ومع أن الجو العام لم يكن مناسبا أخلاقيا, إلا أن سيدها الجديد كان أرحم بها من السابق, ولكن ويا للحسرة لم تستمر الحال طويلا, ذلك لأنها بيعت مرة أخرى إلى سيد جديد, وكانت رحلة نحو الأسوأ مع السيد الجديد الذي مارس معها كل أنواع العنف والتعذيب. ومع بلوغها الثامنة عشرة من عمرها تعرفت على شاب صديق من مزرعة مجاورة وتأصلت علاقة الحب بينهما, لكن سيده لم يوافق على الزواج بينهما بسبب ما قد يحصل من المشاكل حول ملكية الأطفال الذين يولدون من زيجة بين عبدين مملوكين لسيدين مختلفين, وكان رد فعل مالك الشاب عنيفا إذ قام بتعذيبه حتى الموت. وبعد ذلك قام سيدها بتزويجها رغما عنها لأحد عبيده الذي يكبرها بكثير والذي أنجبت منه عدة أطفال. وعندما بدأت ولاية نيويورك التفكير الجدي بتحرير الرقيق, اتفقت "إيزابيلا" مع مالكها على شراء حريتها قبل إقرار القانون بسنة, وذلك مقابل أداء بعض الأعمال الإضافية. وعلى الرغم من أنها نفذت ما التزمت به إلا أن السيد تراجع عن قرار منحها الحرية مما اضطرها الى التفكير بالهرب. وبالفعل فقد فرت بنفسها تاركة أطفالها خلفها ولجأت الى إحدى المزارع التي قرر مالكها إيواءها. وعندما سمع سيدها بذلك طالب بعودتها ولكنها رفضت, فما كان من سيدها إلا أن تنازل عنها مقابل عشرين دولارا. وهكذا ربحت إيزابيلا حريتها, وأخذت تفكر في استعادة أطفالها, وسرعان ما اكتشفت أن أصغر أطفالها وهو ابن الخامسة قد تم بيعه الى مالك جديد في ولاية ألاباما. طالبت بعودة ابنها الذي بيع بطريقة غير قانونية, وعندما فشلت كل الجهود اضطرت الى رفع دعوى قضائية ضد المالك الجديد, وبعد محاكمة طويلة صدر قرار القاضي بإعادة الطفل الى أمه. وكانت هذه أول مرة في تأريخ الولاياتالمتحدة يربح فيها عبد قضية ضد سيد أبيض في المحاكم. انتقلت بعد ذلك للعيش مع إحدى التعاونيات التي تمتلك محلجا للقطن, ونذرت نفسها للتنقل في البلاد والدعوة إلى تحرير الرقيق, ومنحهم حقوقهم واندماجهم الكامل في المجتمع, وكذلك الدعوة إلى منح المرأة حقوقها وخصوصا حقها في الانتخاب, ولذلك اتخذت لنفسها اسم شهرة هو "سوجرنر تروث". وفي هذه الفترة قامت برواية قصة حياتها والتي صدرت في كتاب أسمته "سوجرنر تروث: حكاية أمة من الشمال". وفر لها الكتاب موردا ماليا متواضعا ومنحها الفرصة للتفكير بعمل شيء يساعد زملاءها الرقيق الذين عانوا ومازالوا من ويلات الرق. وكانت خطيبة مؤثرة مالبث أن ذاع صيتها في البلاد فأصبحت صوتا متميزا لقضايا الحقوق المدنية, فصارت تدعى إلى مؤتمرات النساء تخطب فيهم وتحثهم على المطالبة بالحقوق المشروعة ومنها حق الانتخاب. وفي أحد مؤتمرات حقوق المرأة في مدينة أكرن أوهايو, ألقت فيه خطبتها المشهورة "ألست امرأة؟" والتي تعتبر من أهم الخطب التأريخية في مجال حقوق الإنسان, فكتب عنها الكثير وطبعت بعدة روايات, والتي قالت فيها: "ذلك الرجل يدعي بأنه يجب أن يساعد المرأة في الصعود الى العربة, وأن يحملها لكي تستطيع عبور السواقي, وأن يتيح لها فرصة الحصول على أفضل الأماكن. لكني في حياتي لم يساعدني أحد في صعود عربة, أوالعبور فوق بركة الطين, أو إعطائي أفضل الأماكن, ألست امرأة؟... لقد قمت بحرث الحقول, وبذرت البذور, وجمعت المحصول ونقلته إلى المخازن, ولم يساعدني رجل. ألست امرأة؟ أنا عملت مثل الرجل, وأكلت مثله (متى وجدت لذلك سبيلا) وتحملت ألم السياط مثله... ألست امرأة؟ لقد أنجبت ثلاثة عشر طفلا في حياتي ورأيت معظمهم يباعون في سوق النخاسة, وعندما بكيت من الحزن مع أمي, لم يسمعني أحد غير الرب... ألست امرأة." ومع اندلاع الحرب الأهلية في الولاياتالمتحدة بين الحكومة الفيدرالية التي أصدرت مرسوما يمنع الرق, وبين الولايات الجنوبية التي تريد إبقاء الرق للعمل في المزارع, أخذت إيزابيلا تعمل في تشجيع السود في أمريكا من أجل الانخراط في الجيش الفيدرالى. كما وأنها عملت مع منظمة لمساعدة الرقيق المحررين في ولاية فيرجينيا. وفي عام 1864م اجتمع بها الرئيس أبراهام لينكولن في واشنطن تكريما لها ولدورها في مساعدة المحرومين, وتم توثيق اللقاء بلوحة فنية مشهورة. وبعد ذلك بثلاث سنوات انتقلت الى مدينة باتل كريك في ولاية ميتشغان, وبقيت تعمل خطيبة متنقلة عن تحرير الرقيق وحقوق المرأة إلى أن توفيت عام 1883م. وفي مدينة باتل كريك أقيم نصب تذكاري لهذه المرأة التي مرت بأسوأ الظروف , ومع ذلك استطاعت أن تسمو فوق جراحاتها وظروفها القاسية, لتصبح رمزا من رموز الحقوق المدنية وحقوق المرأة وحركة السلام. وفي الذكرى المئوية الثانية لميلادها عام 1997م تم افتتاح معهد باسمها لتدريب العاملين في المجال التطوعي. أما كتابها فهو متداول إلى يومنا هذا ويعد من أهم الوثائق لمرحلة الرق في الولاياتالمتحدة. لا أدري من منا مرّ أو سوف يمر بما مرت به هذه المرأة في حياتها التي عانت فيها من الرق والعذاب والفقر والحرمان من كل شيء حتى من الرفيق والأبناء والأخوة الذين كانت تراهم بأم عينها يباعون في الأسواق ويذهبون ولا تدري عنهم شيئا. نعم لقد بكت وتألمت وحزنت, ولكنها لم تقهر. وهي عذبت وجرحت وأهينت لكنها لم تهزم. ولقد صدق الكاتب المعروف جون شتاينبك إذ يقول "إن الرجل يمكن أن يدمر لكنه لا ينهزم". نعم إن هذه المرأة, أو قل هذه الرجل, واجهت في حياتها كل شيء ولكنها في داخلها لم تنهزم, وليس ذلك فقط, فلقد لملمت جراحها وصمدت وتجاوزت العقبات لتصنع من حطام حياتها شيئا تهبه للآخرين. فكانت تواسي الجرحى والمظلومين, وجعلت من نفسها صوتا للمستضعفين. فجاءت استجابة الناس لرسالتها وتمثلت برغبتهم في التعرف عليها وما تقوله في وصف تجربتها. وهي قصة حري بنا أن نقف عندها لأن كلماتها كتبت بالدم والدموع والجوع والألم, وما كتب بهذه الأشياء أقوى مما تسطره الأقلام ولا تمحوه الأيام. وفي الختام أدعو جميع الأزواج الذين قرءوا هذه المقالة أن يعرضوها على أزواجهم لتعم الفائدة. * سفير جمهورية العراق في الرياض