قال الشاعر المتنبي: ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا يوضح هذا البيت الرائع من روائع المتنبي (وما أكثرها في شعره) حقيقة متكررة تاريخياً وواقعاً. وهي أن الذي يستخدم الضرغام (الأسد) وسيلة يصطاد بها (حيث إن الباز وهو الصقر الذي يستخدم وسيلة للصيد)، فإن هذا الأسد سوف يصطاده فيما يصطاد بعد أن يتفرغ له من فريسته الأولى. هذا البيت من الشعر يصلح تماماً لوصف الوضع في العراق. فإن معارضي صدام في العراق أرادوا استخدام الأمريكي لاصطياده والتخلص منه، فجاءهم الأسد مهرولاً مسروراً واصطاد صدام. ولكنه لم يكتف بذلك، بل اصطاد البلاد كلها وصادر سيادتها وأصبح يصول ويجول فيها. ولم يعد لأولئك الذين استدعوه إلا أن يذعنوا للأسد الأمريكي فصاروا فريسة لسيطرته وجبروته. لا أقول هذا الكلام دفاعاً عن صدام، فهو ظالم طاغية ذهب غير مأسوف عليه، وليس هذا مجال بيان جرائمه، لا أشك أمريكا تستطيع التخلص منه لو أرادت دون احتلال العراق لكنها تريد بلاد الرافدين ذات الأمجاد والرجال والقوة لتكون مستعمرة لها تضعها كيف تشاء. ربما يقول قائل إن معارضي صدام لم يستطيعوا التخلص منه فاضطروا للأسد الأمريكي يقوم بهذه المهمة التي أتعبتهم. وأنا أقول رداً عليهم، إذا كان معارضو صدام لم يستطيعوا التخلص منه فهذا دليل عجزهم، وكان عليهم أن يعيدوا حساباتهم ليصلوا إلى مرادهم دون اللجوء إلى الأسد الأمريكي، فالذين لا يستطيعون تغييراً من الداخل بجهدهم ثم يلجأون إلى طلب التغيير من الخارج بجهد غيرهم من الدول العظمى هم في الحقيقة أصحاب مصالح شخصية ضحوا ببلادهم من أجلها. لعل التاريخ أيضاً يشهد لهذه الحقيقة والكل يعلم أن حاكم اليمن سيف بن ذي يزن استنجد بالأسد الفارسي (دولة الفرس التي كانت تمثل القوة العظمى في المنطقة» لدحر الأحباش عن بلاده، فجاء الفرس مهرولين واحتلوا اليمن وافترسوها. كما أن وضع المسلمين في الأندلس ليس ببعيد عن هذه الحقيقة. أن الدول الأسدية (العظمى) لها أولوياتها وأطماعها ولا يمكن أن تنقذ أحداً إلا وهي تسعى لمصالحها. هل من المعقول أن تضحي بأبنائها وأموالها من أجل آخرين، أي سذاجة هذه وأي مغالطة؟؟؟ والأسد الأمريكي جاء وله أهدافه ومن أهمها حفظ أمن دولة اليهود من أي قوة قد تزعجها مستقبلاً. إن أمامنا مثلثاً مزعجاً: ظلم صدام + سذاجة وانتهازية معارضيه + أسد أمريكي متلهف للانقضاض. اكتملت أضلاع المثلث ليحدث ما حدث من احتلال للعراق. ولكن الأمر لم يتطور كما يجب الأسد وكما يريد الانتهازيون. فقد أقدم هذا الأسد على أخطاء كبيرة جعلته يدفع ثمناً غالياً. هذه الأخطاء جعلت مبادئه وحججه مرفوضة وسمعته سيئة وانتجت مقاومة قوية تهز عرين هذا الأسد ولا تجعله يهنأ بفريسته. لعلي ألخص أهم هذه الممارسات الخاطئة في عشر ممارسات: 1- دخول الحرب ظلماً وكذباً، ودون أي غطاء دولي أو أخلاقي. 2- تدمير بنية البلد والكثير من مرافقه عن طريق قصف عشوائي بأسلحة تدميرية. 3- لما دمرت البلد، دعت إلى إعماره ولكن بمشاركة أموال دول أخرى وتحت إدارتها. 4- حلت الجيش وصار البلد لا جيش له ولا أمن فيه حتى يضطر إلى حمايتها وحتى تصنع جيشاً على عينها تعرف أسراره وقدراته. 5- دهم البيوت واعتقال الأبرياء وترويع الناس. 6- تعذيب السجناء في سجن أبو غريب وغيره. 7- قتل الجرحي في عملية تدمير الفلوجة وغيرها . 8- قتل الأبرياء بحجة حفظ الأمن كما اعترف بذلك الجندي الأمريكي الهارب إلى كندا. «جريدة الرياض، العدد 13317، بتاريخ 26/10/1425ه». 9- قتل علماء البلد بالتنسيق مع الموساد الإسرائيلي. 10- دفع البلد إلى حافة التقسيم أو الحرب الأهلية. كل هذه الممارسات الأسدية وغيرها كانت أمراً متوقعاً من مثل هذه القوة العظمى الأحادية، لكن ليس إلى هذا الحد من الغطرسة والاستخفاف. ويبدو أن جنون السيطرة ووجود حكومة دينية حاقدة على المنطقة وشعوبها المسلمة عامة والعربية خاصة وتقديمها أمن دولة اليهود على كل شيء جعلها تدخل هذه المغامرة. لست هنا في مجال تحليل الأزمة العراقية كلها من جميع جوانبها والحديث عن المخرج منها، بل أردت بيان خطورة الاستنجاد بالقوى العظمى لحل مشاكلنا الداخلية، خاصة إذا كانت تختلف معنا في مبادئنا. لدى بعض فعاليات الشعب العراقي النظيفة التي لم تتلطخ يدها بالتعاون مع المحتل مثل هيئة علماء المسلمين، طروحات لحل الأزمة من وجهة نظرهم ظهرت في وسائل الإعلام تتلخص في أن تتم إدارة البلد من قبل قوات دولية تحت قيادة الأممالمتحدة، حتى تجري انتخابات في ظل ظروف مناسبة بعيدة عن سطوة الاحتلال. وأخيراً، اعتقد ان الأسد الأمريكي بدأ يغرق في مستنقع حفره بيده وعلى وشك أن يصطاده المقاومون في العراق كما اصطادوه في فيتنام. لكن هذا الأسد لا يعترف بذلك ولا يذكر الحجم الحقيقي لخسائره حتى لا يتحول أمام العالم إلى قط جريح. أمام الأسد الأمريكي حرب استنزاف يجيدها المقاومون ويصبرون على طولها، فهل يستدرك أخطاءه ويخرج بباقي كرامته، إن كان بقي منها شيء، أم يستمر في كبريائه حتى إشعار آخر وضربات أليمة وأخطاء متراكمة، هذا ما ستكشفه الأيام.