من طريقة لباسه تشعر أنه مدرب رياضي والممثلون هم اللاعبون والمسرح هو الملعب.. هذا هو عبدالله السعداوي، المخرج المسرحي البحريني الكبير الذي لا يعترف بمسرح لا يقوم على استنفار الجسد والتدريب اليومي والتجريب بوعي. السعداوي الذي فاز بجائزة أفضل إخراج في مهرجان القاهرة التجريبي عن عرض «الكمامة» عام 1994؛ زار المنطقة الشرقية في مهمة لتدريب شباب المسرح السعودي خلال أيام مسابقة مسرح الدمام. ولأن السعداوي يعلن دائماً أنه ضد السكونية والاستقرار فإن الحوار معه جاء متحركاً وأقيم في أمكان متعددة. فمن مسرح الدمام وصولاً إلى قبالة البندر البحري إزاء القوارب والسفن، دار نقاشُ استحضر فيه المخرج البحريني ذكريات نصوصه المسرحية ال»12» والتي ستطبع قريباً إلى جانب ذلك العرض العبثي الذي أقامه أمام مجمع تجاري في البحرين بحضور بضعة أشخاص لا أكثر.. وحول المسرح السعودي والخليجي جاء هذا الحديث مع صاحب عرض (متروشكا) أو عبدالله السعداوي: * ماذا وجدت عند الشباب السعودي في ورشة التدريب المسرحية؟ وجدت عند الشباب حماساً وحرصاً جاداً لأن يكتسبوا شيئاً، وأيضاً تعاوناً جيداً وأكيد أننا تركنا فيهم بذرة وتركوا فينا بذرة أخرى، الأيام الماضية استمتعت كثيراً معهم ولكن من الضروري أن يستمر المسرحيون الشباب على ما هو جيد مما تعلموه. لقد لاحظت "التماعات" مسرحية في بعض من شارك. * هل لك أن تحدثني عن الخطوط العريضة لورشة التدريب المسرحية؟ التدريب تم على العديد من التمرينات من تطوير الذات والقدرات والفهم والإحساس والإنصات والوعي الذاتي والانفعال والارتجال والسكون والحركة والتنفس والاسترخاء والتوتر والتوازن.. التركيز هو ما كانت تدور عليه الورشة، ومن خلال التركيز نستل تمارين التحكم والسيطرة، ولأن الممثل عنده آلتين يعزف من خلالهما للمتلقي وهما (الصوت/الجسد) فقد حاولنا إعطائهم آليات التعلم والتكوين من أجل أن يكتشفوا بأنفسهم عوالم المسرح ويعرفوا كيف يتعاملوا مع الفضاء المسرحي وأن يفرقوا ما بين الفضاء الدرامي والمسرحي والنصي. * ماذا يحتاج الممثل المسرحي حتى يتحول من المسرح الحواري الشفهي إلى مسرح الجسد؟ أولاً: يحتاج إلى حالة التدريب المستمر واليومي وأن يعي أن أساس التمثيل هو توحيد الفكر والشعور والمخيلة في بوتقة واحدة وينطلق من خلالها.. وبالتالي تدريب الصوت أو الجسد له لوازم معينة وعندما تتحد هذه الأشياء كلها سيكون لدينا فعلاً مسرحي إنساني له قصد واتجاه معين. نحن لم ندرب جسدياً بشكل جيد ولا جعلنا من أجسادنا أن تقول لغة وأيضاً كلامنا في المسرح لم يدرب كي يقول لغة في المسرح لذا تجدنا بعيدين عن اللغة (حتى اللغة العادية) وقريبين من الثرثرة، وبالتالي تجد أن لدينا عامية في الكلام وعامية في الجسد وهنا لا أعني عامية القدماء، لأن أباءنا وأجدادنا كان لديهم علاقة قوية ما بين أجسادهم وكلامهم. * أنت كمسرحي خليجي ألا يقلقك حالة عدم استمرار الممثلين في المسرح التجريبي "خاصة"؟ بالتأكيد، هناك شباب مسرحي نمت عنده موهبة وحب كبير للمسرح ولكن ما أن يتزوج مثلاً حتى تصعب عملية التوفيق بين المسرح والعمل أو البيت، ولكن يبقى حنينه للمسرح وتواجده. لذا الأهم هو الاستمرار في المسرح لأن المسرح كما أشير دائماً بأنه بحر عميق ويحتاج إلى نفس كبير للاستمرار!. * في حواري مع المسرحي التونسي توفيق الجبالي لاحظت أنه لم يتذكر من المسرح الخليجي سوى مسرح الصواري البحريني الذي أنت أحد أعضائه الفاعلين. لماذا؟ لأن الجبالي والتوانسة شاهدوا تجارب لمسرح الصواري، حتى عندما التقينا معهم في القاهرة لم يكونوا يعرفون شيئا عن البحرين، وبعد أن شاهدوا تجربتنا عرفوا أنها تحاول أن تستنفر الجسد ولها حالات تجريبية واعية، ما دفع عز الدين قنون وفاضل الجعايبي وتوفيق الجبالي إلى الاستغراب، لأننا كنا نقدم أعمالنا في فضاءات خارجية لم تكن تتحكم فينا خشبة المسرح، وربما وجدوا فينا شيئا قريبا من تجربتهم المسرحية، لأن المسرح عندنا ضد حالة الاستقرار والسكونية عبر التجريب الواعي، كالحياة تماما لا تستقر ولا تكون ساكنة. مع تلاميذه في ختام ورشة المسرح التجريبي في الدمام * ولكن هذا يتطلب منكم أيضا مشاركة أكبر في المهرجانات غير أننا لم نسمع عن هذا منذ زمن؟ طبعا مشاركاتنا يتحكم فيها "الإعلام" عادة، والشباب ليس لديهم الإمكانية للسفر لوحدهم.. وتعرف أن لا وجود للدعم فالتاجر ليس معنياً أن يكون هناك مسرح أو لا وهذه مشكلة لأنه لا وجود لدعم الفن في بلداننا والأسباب معروفة.. لذا تجد أن أفكارا كثيرة وكبيرة تموت لأن لا أحد يدعمها. * المسرح قائم على فكرة الاتصال المباشر بين الفنان والجمهور.. ألا يقلقك كمسرحي هيمنة وسائل الاتصال الحديثة وتحولها لوسيط مادي بين الإنسان وأخوه الإنسان؟ أكثر ما يقلقني أن العصر الذي نعيشه هو عصر التسطح وهو عصر يستطيع أن يستعبد الانسان بشكل ناعم، وأنت ترضى بهذه النعومة وتعتقد أنك تمتلك الحرية، فيعطيك مجموعة من الكلمات الضخمة مثل (الديمقراطية) ونحن عادة ما نصدق الأشياء بسهولة ونعتقد أن ثمة شيئاً يتغير. خذ مثلاً الديمقراطية عندما ينتهي دورها تصدر لنا بشكل آخر غير تلك الديمقراطية التي كنا نعرف عنها. تصدر في السوق والسوق يسطح كل شيء.. التلفزيون دوره أن يأتي وينزع من الانسان العاطفة كأن تشاهد حدثا مأساويا، وما أن تبدأ بالتأثر حتى يظهر في نفس المحطة إعلان تجاري يظهر فتاة جميلة.. فيقوم الإعلان بسحب العاطفة الحزينة من حدث المأساة. والمسألة الأخرى هي أن الإعلام يقدم معلومات هائلة ولكن هذه المعلومات تحتاج إلى تحليل وهو ما لا يستطيع عليه المتلقي العادي فضلاً عن أن في هذه المعلومات كماً هائلاً من الغش والتزييف. * وهل حرضك ذلك مسرحياً؟ كتاباتي وعروضي المسرحية بدأت تلامس مسألة هيمنة تكنولوجيا الاتصال الحديثة على الإنسان بشكل مباشر، وأحاول ايضا أن اعبر عن قلقي في المسرح، لكي أعلن أن ما يقال من أن هذا العصر هو عصر تواصل هو في الحقيقة ليس عصر تواصل وإنما فقط عصر اتصال، لأن التواصل قديماً كان أفضل بكثير، لأن الاتصال تحول لدينا إلى هم يومي آخر، وهو هم مادي لأن الاتصال بكل حسناته هو في الأساس لخدمة رأس المال والتجارة. السعداوي يتحدث للزميل علي سعيد * الفيلسوف الألماني هابرماز حذر من هيمنة وسائل الإعلام الجماهيرية لأنها تخلق تصورا اجتماعيا واحدا تجاه القضايا وكثيراً ما تحجب الحقيقية، داعيا إلى الالتفات إلى المسرح والصالونات الثقافية كقنوات جانبية للحقيقة كما كان في أوربا قبل الحداثة؟ بالفعل، وفي الواقع إن الإعلام بكل كثرته يحتكر الحقيقة في رأي واحد ويرفع شعار أكثر من رأي وتعددية الآراء.. ولكن الإشكالية الحقيقية مع هبرماز هو في أنه يعتقد بتواصل الحداثة وأنا أميل أكثر لميشيل فوكو لأنه كشف كمية أكبر من الحقائق.. والمسألة الأخرى أن الحداثة القديمة الصلبة انتهت وجاءت ما بعد الحداثة التي هي حداثة سائلة ورقمية، غير أن ثمة حداثة فائقة أخرى جاءت بين يوم وليلة، ففي الحداثة السائلة لا يمكن أن تقبض على الأشياء لأنها دائمة التحول، ما بالك بالحداثة الفائقة.. الزمن خطر جداً وأنت زمنك مستعمر فكيف تستطيع أن تقاوم تيارات الحداثة الجارفة. * يبدو أن ليس لنا سوى الفن كملاذ؟ بالضبط، لأنه الأرقى في التعبير عن الذات وهو أقوى ظاهرة في تاريخ الحضارة، والمسرح منذ أن بدأ وهو يحاول أن ينتزع الإنسان من فوضى الوجود أو هذا الواقع الذي نحن فيه، فالمسرح هو رفيق الإنسان الوحيد، يعلمه العمل الجماعي (يجب أن يكون من الروضة) ويعلمه النظر للجمال ويوقظ إحساسه ويقيم للإنسان علاقة جمالية مع الكون لكي تعرف قيمة الأشياء وتعرف كيف تتعامل مها وتعرف أن هذا الكرسي أو الشجرة هو بأهميتك أنت كموجود، لذا يجب أن يكون بينك وبين الكون لغة، هذه اللغة يريدون بأي طريقة أن يمسحونها، فالمسرح لديه حيل في أن يدخل في كل مكان مثلما أن المتظاهرين ضد العولمة كانوا بشكل أو بآخر يقيمون مسرحاً بشكر عفوي لأنهم يعرفون أن المسرح مهم جداً منذ القدم. والمسرح في كل العالم يعاني ولكن ما زال يقاوم. * كيف يقاوم المسرحي في هذا الزمن؟ لأن المسرحي هو ابن عصره، مهما كان الزمن صعباً هو من يقاوم من خلال محاولة تفكيك هذا العصر وتحليله وفق رؤية جمالية، طالما ثمة حوار وإصغاء يصبح ثمة كون، والمسرح أساساً هو أن نحيا ونتحاور. * هل هناك أمل في ولادة مسرح خليجي جاد وغير تهريجي؟ أتمنى، ثمة شباب موجود ولكن إشكالية المسرح الخليجي أكبر من غيره مما هو موجود في الأوطان الأخرى رغم وفرة العامل المادي وذلك بسبب أن التسطيح أكبر في المجتمع الخليجي ولأن القيمة الاستهلاكية آخذة في التطور والتبدل السريع. سابقاً كانت الموضة تأتي خلال سنوات السبعينات كلها.. أما الآن الموضة تأتي وتذهب بسرعة حسب ضرورات الإنتاج السلعي والتجاري ولهذا الأمر عواقب وخيمة خصوصاً على مجتمعات استهلاكية مثل المجتمع الخليجي. حتى تحول كل ما نمارسه في الحياة إلى نوع من الاستهلاك، بما فيه العمل الجمالي الذي تحول إلى استهلاك. * أنت نذرت عمرك للمسرح.. ولم تتزوج حتى.. ما الذي منحك إياه هذا "الكوخ/المسرح"حتى تقدم له سنوات العمر؟ كان ثمة شخص كنت قد فقدته منذ الطفولة اسمه عبدالله السعداوي، حتى أني لا أعرفه ولم التق فيه؛ في المسرح التقيت فيه، جلست معه حضنته وحضنني، فالمسرح أعطاني محاولة الاقتراب من ذاتي ومن واقعي ومن الآخر وبالتالي عشت وأنا اشعر أن للمسرح فضلاً على حياتي. فهو الذي قربني للكتاب والسينما وهو الذي قربني منكَ أنت وخصوصاً أن اللقاء بيني وبينك ليس لقاءًَ صحفياً بقدر ماهو لقاء بين شخصين كل واحدٍ منهما يبحث عن ذاته ففجأة وقف أمام الآخر فوجد نفسه فحضن ذاته، لذلك أتمنى أن يبقى هذا الكوخ (المسرح) وكلما كانت الأشياء ضيقة كلما استطاع الفنان أن يرى فيها مكاناً للذات، لأن النفري يقول: (كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤية).