اعتدنا نحن أبناء العالم العربي الإسلامي, أن ننعت ما لا يروق لنا من السلوكيات والاعتقادات والتصرفات وغيرها بأنها: تنتمي إلى القرون الوسطى!. فنقول, مثلاً,: "هذا سلوك قروسطي", أو "ذاك رأي أو فتوى تنتمي إلى ذهنية أو ثقافة القرون الوسطى", وهكذا دواليك. لكننا, إذ ننعت تلك الآراء والتصرفات, سلبياً, بإحالتها إلى نظام فكر القرون الوسطى, لم نفكر كيف جاءت تلك التسمية, ومن أتى بها, ولأي غرض سماها بذلك الاسم الذي يوحي بالتثريب والشنآن. ذلك يعود, أعني عدم التساؤل, إلى سبب ثقافي/سيكولوجي يمتح من المسافة التاريخية المروعة التي تفصلنا عن مهد الفلسفة, ومَشاهد الثورات العلمية المعاصرة. حتى أصبحنا نستهلك مفاهيمه الثقافية طرداً مع استهلاكنا لمنتجاته المادية دون أن نشارك في إنتاج تلك الحضارة التي أنتجت الماديات, ونحتت المصطلحات والمفاهيم العلمية والإبيستمولوجية. مفهوم "القرون الوسطى" مفهوم غربي بحت, لا يمت إلى التاريخ, أو الفكر العربي الإسلامي بأية صلة. واستدعاؤه والنسبة إليه والنعت به من قبل العرب مسلمين أو غير مسلمين لا يمثل أكثر من قفز على معطيات تاريخهم وفكرهم. أكثر من ذلك, فإن هذا الاستدعاء يجعلهم تائهين في بيداء فكرية تاريخية غريبة عليهم وعلى تاريخهم وثقافتهم. لا سيما, وهم, أعني العرب والمسلمين, ليسوا بأولئك القوم الراغبين ولا القادرين, ثقافياً, على تقحم مكامن الأفكار الحديثة, والنهل من مراكمات الحداثة التي دشنها من نحت مصطلح "القرون الوسطى". كيف ومتى ظهر, ولأي غرض, نُحت مصطلح "القرون الوسطى"؟. هذا سؤال يقع في رأس سنام ما ينبغي على عالمنا العربي والإسلامي أن يتساءلوا عنه. وتكمن أهميته, بالنسبة للعالم العربي والإسلامي, في أمرين ملحين: أولهما: ضرورة العلم بالتاريخ الإبيستمولوجي للمصطلح, حتى لا يظل أفراده يحيلون, كالببغاوات, إلى مفاهيم وافدة يجترونها دون أن يعرفوا, على الأقل, مسيرتها الإبيستمولوجية. ثانيهما: ضرورة العمل على (تأريخ) ثقافته بشكل يوضح مسيرتها, إبيستمولوجيا. فمن شأن هذا (التأريخ) أن يدعم تزحزحها عن مغارات الظل والتخلف نحو إشراقات النور ومكامن الدفء الثقافي المحصور في القدرة على تلمس علل الثقافة ومصالحتها مع منطق العصر. من المعروف أن الفكر الغربي المعاصر يقسم تاريخه الثقافي/الحضاري إلى ثلاث مراحل أساسية, كل مرحلة منها تمثل قطيعة, بالمعنى الإبيستمولوجي, مع المرحلة التي سبقتها. ومن الملائم هنا أن نستعرض, ولو باختصار مخل, تلك المراحل. وذلك ما تحمله الأسطر التالية. المرحلة الأولى: مرحلة العصور القديمة. وتشير إلى العصر الإغريقي: بالذات, عصر الفلسفة والعلم الأرسطيين. وتحدد هذه المرحلة, تاريخيا, من القرن الخامس قبل الميلاد, إلى بداية القرن الرابع الميلادي: تاريخ (تدين) الإمبراطورية الرومانية بالديانة المسيحية, وبعض فلاسفة الغرب, يمدون ذلك العصر ليصل إلى تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية بيد برابرة القبائل الجرمانية عام 476م. المرحلة الثانية: مرحلة العصور الوسطى. وتبدأ من تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب حتى سقوط الحضارة الرومانية البيزنطية في الشرق على يد الإمبراطور التركي: محمد الفاتح عام 1453م. أي أنها تمتد لفترة ألف سنة تقريبا. المرحلة الثالثة: مرحلة العصور الحديثة: وتبدأ من منتصف القرن الخامس عشر: تاريخ بداية النهضة الأوروبية, مروراً بعصر الأنوار في القرن الثامن عشر, حتى العصر الحالي: عصر الفلسفة والعلم الحديثين. كانت فترة النهضة الأوروبية, التي امتدت من القرن الخامس عشر, تاريخ الإصلاح الديني في أوروبا, وحتى بداية القرن السابع عشر, قد اتخذت من الدعوة إلى إحياء العصر الإغريقي, بما فيه من فلسفة وعلم وسياسة, كشعار أيديولوجي لتحرير الغرب من عقلية القرون الوسطى, التي "تميزت" بغض النظر عن تحقيبها من جانب بعض المؤرخين إلى: حقب مغرقة في الجهل والخرافة, وحقب أخرى أخف منها, أقول "تميزت" بموت الفلسفة واختفاء معالم العلم, (=الفلسفة والعلم اليونانيين, وتحديداً فلسفة وعلم أرسطو), وانتشار الخرافة وانعدام التفكير العلمي, وغلبة التفكير الأسطوري. ولعل من المناسب هنا أن نستعرض أهم سمات القرون الوسطى باستدعاء ما كتبه الدكتور هاشم صالح في كتابه: مدخل إلى التنوير الأوروبي, نقلاً عن أحد أبرز المؤرخين الغربيين المهتمين بتلك العصور: (اتيان جيلسون) في كتابه: (الفلسفة في العصور الوسطى). إن أهم السمات التي كانت تطبع القرون الوسطى الغربية تنحصر تقريباً فيما يلي: هيمنة العقلية اللاهوتية المسيحية على العقول. كانت الحياة الإنسانية حينها رهناً للنص الديني المسيحي, فشؤون الاجتماع والسياسة والاقتصاد, وحتى التصور الإنساني للمسائل التي يحكمها الاجتماع الإنساني كقيم: القبح والحسن, والخير والشر, والفضيلة والرذيلة, كلها كانت محكومة بأفق النص الديني, فكل ما ليس له منها أصل ديني مسيحي فإنه يظل محسوباً على جانب الهرطقة (=البدعة بالمصطلح "الإسلامي"), أو الزندقة أو الكفر. والنص المسيحي المهيمن على الحياة الغربية حينها, لم يكن ذلك النص الغض الطري كما نزل على السيد المسيح عليه السلام, بل إنه النص, أو النصوص الثانوية التي طبعت الحياة المسيحية بما يمكن أن يطلق عليه "الفكر الديني" لآباء الكنسية. لقد كان الإنسان الغربي, حينها, خاضعاً لأفق النص الديني إلى درجة لم يكن يستطيع حينها أن يتصرف في أبسط الأمور الحياتية, ما لم يستفت أحد المفتين من الكرادلة أو الكهان إن كانت حلالاً أم حراما, حتى وإن كانت مما يكيفه العقل, أو مراكمات الخبرة الإنسانية!. الرزح تحت نير الخطايا والذنوب: كان الإنسان الغربي متشائماً خائفاً مذعوراً لا يثق بإمكاناته ولا بمقدراته. متوكلاً يكل كل شيء إلى المشيئة والقدر. فليس ثمة رابط عضوي, لديه, بين الأسباب والمسببات, لا فيما يتعلق بظواهر الطبيعة,. ولا فيما يتعلق بقوانين الاجتماع الإنساني أو: طبائع العمران البشري بلغة ابن خلدون. وكانت الخطيئة الأصلية, خطيئة أكل آدم من الشجرة, تلاحقه حتى في منامه, فهو مذنب محاط بنذر العقاب أينما حل وارتحل. ولم تنفرج الكربة قليلاً إلا في القرن الثالث عشر تقريباً عندما بدأت الفلسفة الأرسطية, في نصها الأصلي, تحل تدريجياً, بالتوازي مع الرشدية, (=نسبة لابن رشد), محل الفلسفة المسيحية التي انحصرت في المواءمة بين الفلسفة الأرسطية, بعد تحويرها لتتلاءم مع المتطلبات المسيحية, وبين العقيدة المسيحية. الزهد في الدنيا واعتبارها مجرد محطة عبور سريع: وهذا أثر بدوره على فاعلية الإنسان نحو نشدان التقدم والنهضة. فما فائدة السعي نحو التقدم طالما أن الدنيا ليس إلا محطة لعبور الطريق إلى الدار الأخرى. ونشأت, على متن هذه النظرة الاحتقارية للدنيا, نظرة متشائمة من الحاضر والمستقبل, ومرحبة بالفقر والافتقار. فكلما افتقر الإنسان واعتاز, كلما قرب إلى الله تعالى وزادت حظوظه في الفوز عنده!. هيمنة العقلية الرمزية أو الخيالية على الوعي الإنساني. عندما نتحدث عن العقلية التي تقود الثقافة والوعي الإنساني في زمن معين, فثمة عقليتان متقابلتان هما: العقلية الواقعية العلمية, وهي ما تطبع العقلية الغربية المعاصرة. ويقابلها: العقلية الرمزية الخيالية الخرافية الأسطورية, التي تعتمد على ترميز الظواهر الطبيعية لكي تستنبط منها, فقط, ما يدعم معتقداتها الإيمانية, (وهي العقلية التي تطبع العالم الإسلامي بكليته). الأولى نظرة عقلانية علمية تتخذ من اطراد قوانين الطبيعة وسائل لدراسة ومعرفة تلك القوانين لتطويع معطياتها (=الطبيعة) لمصلحة الإنسان. أما الثانية فنظرة سحرية رمزية خلابية لا يحرك لبها إلا ما هو غير طبيعي, أو ما هو ساحر خلاب يتجاوز إطار العلاقة المباشرة بين الأسباب والمسببات, وعلى عكس العقلية الأولى, فإن هذه العقلية, نسبة لقيامها على الترميز والأسطرة, فإنها تخرج الإنسان من دائرة اهتمامها, باعتباره مجرد وسيلة من ضمن وسائل عدة لتحقيق الغاية من الترميز بكليته. ومن هنا تعلقها (=العقلية الأسطورية) ب "المعجزات" باعتبارها دالة على صدق التوجه الإيماني, بنفس الوقت الذي لا تعير فيه أي اهتمام للظواهر الطبيعية, ولا لاطراد قوانينها من ناحية ما يمكن أن يعود على الإنسان, بواسطة استنباط آلية عملها, من خير دنيوي. فنظرتها تتجه دائماً إلى "المعجزات والإعجاز" من منطلق ديني بحت. فالاطراد لا يسحرها بالقدر الذي يسحرها الحديث عن المعجزات التي تخرق قوانين الطبيعة, والإعجاز الذي لا يعتمد على البحث العلمي بقدر ما يجد المعطى "العلمي" جاهزاًُ في النص.