أجبرت البطالة كثيرا من خريجي الجامعات والكليات للقبول بالحد الأدنى من الوظائف لتلبية طموحاتهم وأحلامهم؛ بعد دراسة متواصلة امتدت لسنوات في تخصصات متعددة انتهى بغالبيتهم للرضا بأي وظيفة حتى وإن كانت لا تتناسب ومؤهلاتهم وتخصصاتهم. ويرجع السبب كما ذكر عدد منهم إلى خلل بين ما تخرِّجه الجامعات وبين ما يحتاجه سوق العمل، مما صعب عليهم الحصول على عمل يتلاءم مع مؤهلهم العلمي، وإن حصل فإنه يحتاج لانتظار سنوات طويلة، إضافة إلى أن بعضهم قد حتمت عليه "لقمة العيش" التنازل عن الشهادة الجامعية التي كانت بالأمس حلمهم الذي سيفتح لهم أبواب العمل من بابه الواسع، ولا يجدون حرجا في ولوج وظائف قد يتطلب بعضها شروطا أقل من مستواهم الجامعي، وهو ما يتجلى من خلال تقديم بعضهم أوراقه لوظائف لا تتطلب في غالب الأحيان سوى مستوى الثالث الثانوي، أو حتى أقل!. الفرصة الوحيدة يقول محمد السالم "تخرجت منذ ثلاث سنوات من كلية اللغة العربية وتقدمت على الوظائف التعليمية، لأنها الفرصة الوحيدة للعمل، ولكن رأيت أنه ما زال أمامي وقت طويل انتظارا لها، فلم أجد حرجا من التقدم على وظيفة (سكرتير) بواسطة من أحد أقاربي في إحدى الشركات الخاصة، مع أنني لم أتعلم مهنة السكرتارية أثناء دراستي، إلا أن الحاجة أجبرتني على هذا العمل الذي أتيحت لي الفرصة فيه. أما راشد السلمان(خريج قسم علم نفس) فتساءل عن سبب قبول الجامعات لهم، وهم يعلمون عن مصيرهم الذي سيؤولون إليه بعد تخرجهم، يقول:هل قبولنا في هذه الأقسام هو الخطأ؟، أم أن انعدام التوجيه هو السبب؟، مضيفا أنه زار العديد من المؤسسات الحكومية طالبا التوظيف فيها لكنه اصطدم بحاجز الرفض، وذلك لعدم التوافق بين تخصصه والوظائف الشاغرة في تلك المؤسسات، إلى أن تسنت له الفرصة بوظيفة (ناسخ)، فتقدم لها بعد حذف شهادته الجامعية،لأنه ليس من شروط شاغلي تلك الوظيفة أن تكون جامعياً!. ويضيف فايز الحربي أن المؤسسات الأهلية لا تقبل خريجي الأقسام الجامعية الأدبية، ولكن بعض مسئوليها ينظرون في طلبنا وقد يوافقون عليه من باب (العطف) علينا!. أما محمد الدخيل، فيقول:تخرجت من أحد الأقسام الأدبية بتقدير متدن، ورغبت العمل،فلم أجد من وظائف القطاع الخاص،غير وظيفة (موظف استقبال)، وعندما أخبرت من أجرى لي المقابلة الشخصية بأنني جامعي، رد علي بقوله:"وماذا نستفيد من تخصصك الجامعي؟". مراحل التوظيف يقول الدكتور حماد بن علي الحمادي أستاذ الخدمة الاجتماعية المساعد إننا عندما نستقرئ النمو والتغير الاجتماعي والاقتصادي في المملكة؛ فيما يتعلق بقضية الخريجين وتخصصاتهم والوظائف المتاحة لهم بعد التخرج سنخرج غالبا بمراحل تاريخية عدة تساعدنا على تفسير الحاضر، حيث يمكن إيجازها بالتالي:مرحلة التكوين التي كان فيها الوطن بحاجة إلى أي إنسان متعلم يقرأ ويكتب، ثم مرحلة البناء وفيها كان خريج الابتدائية يستطيع أن يكون معلما وتطورت خلال سنوات قليلة ليصبح خريج المتوسطة فالثانوية والدبلوم بعد الثانوية، تلا ذلك مرحلة الطفرة والتي أصبحت الشهادة الجامعية مطلبا أساسيا، حيث أصبحت الوظائف متاحة لأي خريج من أي تخصص لحاجة الوطن للنهضة الاجتماعية التنموية، ومن ثم أتت مرحلة ما بعد الطفرة والبحث عن التخصص فقد اكتفت الوظائف المتاحة من بعض التخصصات، ولازال الطلب على بعضها الآخر قائما والبعض الآخر لدينا فيه عجز لن نستطيع سده إلا بعد عشرات السنين وهي المرحلة التي نعيشها في وقتنا الحالي، ومن الواضح أنه لم يكن هناك قراءة متأنية للنهضة والتنمية التي مر بها الوطن أو لم يكن هناك خطط إستراتيجية لحصر الاحتياجات اللازمة من التخصصات من قبل وزارة التخطيط وبعض الوزارات ذات العلاقة كل في مجاله، والتنسيق في ذلك مع وزارة المالية والجامعات السعودية لتحديد الاحتياجات المتوقعة في كل سنة حسب خطط الدولة الخمسية، أو على أقل تقدير يمكن أن نقول قد غاب التنسيق والتعاون. حلول للمستقبل وأضاف: أعتقد أن تنظيم العمل في المستقبل يتطلب أن يكون هناك سياستان أساسيتان في التخطيط الاجتماعي، الأولى:اهتمام الجامعات بتعليم أفراد المجتمع ليصبحوا واعين ومتعلمين ليسهموا في دفع عجلة التنمية في الوطن ولا يرتبط التعليم والتخصصات بالجامعات بالوظائف المتاحة ولكن تسهم فيها، وحتما أن ذلك التعليم سيسهم في نجاح أولئك الخريجين في حياتهم بشكل عام سواء في أعمال حكومية أو في القطاع الخاص أو حتى في تجارة خاصة بالفرد، بالإضافة إلى النجاح في حياته الأسرية والاجتماعية، والثانية:دراسة حاجة السوق الفعلية سواء في القطاع الحكومي أو في القطاع الأهلي والخيري أو حاجة المجتمع بشكل عام، ويتم تحديد الاحتياج الفعلي لكل سنة ومن ثم تقوم الوزارات ذات العلاقة بنشر تلك الاحتياجات والسعي مع الجامعات الحكومية والأهلية بتحقيق تلك الأرقام مع الأخذ بعين الاعتبار وضع بعض النسب الاحتياطية من أجل الإخفاق والانسحاب وغير ذلك من الظروف الطارئة، وهنا اقترح أن يكون هناك مؤشر يوضح تلك الاحتياجات لكل عام خلال العشرين سنة المقبلة، بحيث يتضح دور الأسرة في المساهمة في التخطيط الاجتماعي للإسهام في استثمار طاقات أبنائها، وهذه السياسة الأخيرة تحتاج إلى عمل جبار تتولاه على سبيل المثال وزارة التخطيط والجهات ذات العلاقة، كما أن هذا العمل يحتاج إلى دراسة استشرافية للمستقبل فتحتاج إلى بعض الباحثين والمتخصصين في علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية والإدارة والتخطيط والاقتصاد، لأن هذا عملا وطنيا سيدفع بنا في مصاف الدول المتقدمة بإذن الله، مع التأكيد بأن الاهتمام وتطبيق تلك السياسة يحتاج إلى العمل على تحديد التخصص ليس في الجامعة فقط ولكن نحتاج إلى إعداد أبنائنا منذ مراحل مبكرة في مراحل تعليمهم ومن ثم مساعدتهم على تحديد تخصصاتهم بشكل علمي دقيق في المرحلة الثانوية، من خلال استخدام قاعدة رفق أو البوصلة الشخصية لتحديد التخصص، لأن المتتبع لبعض التخصصات في الجامعات يلحظ أنه يسجل خريجون بشهادات جامعية فضلوا العمل مأموري سنترال في غير تخصصهم بحثاً عن «لقمة العيش» في القسم في السنة الأولى قرابة 100 طالب وعند التخرج يصبحون عشرين طالبا فقط، أي 20% يستمر وهذا دليل واضح على أن الطلاب لا موجه لهم حتى الساعة في تحديد تخصصاتهم، وبناء على ما سبق لابد من التأكيد على أنه ليس كل من تخصص في علم في الجامعة يجب أن يعمل فيه لأنه غالبا كان تسجيله في التخصص "غلطة" فالتغيير بعد التخرج من خلال دورة أو دبلوم هو تصحيح للغلطة التي يجب أن لا تحدث ابتداء ويجب أن لا يكون ذلك الأصل بل الاستثناء، إذا وجد التخطيط السليم وفق ما تم الإشارة إليه أي أن هناك دور للحكومة في الدراسة وتحديد الاحتياجات متمثل في الوزارات المعنية ومقابل ذلك دور للجامعات في عملية توفير تلك الاحتياجات ودور على الأسرة السعودية في تنمية قدرات أبنائها وحثهم على طلب العلم والالتحاق بالتخصصات التي يحتاجها الوطن سنظفر -بإذن الله- بعمل متميز وطاقات لم نتوقع أن نملكها يوما ما. مختصو الاجتماع وعلم النفس هناك عدد من التخصصات الجامعية التي تعاني عزوف بعض من انتسب إليها وتخرج منها، وسنطرح في هذا التحقيق على سبيل المثال لا الحصر( تخصص الأخصائيين الاجتماعيين)، حيث يتحدث الأخصائي الاجتماعي الأستاذ صالح بن عبدالله اليوسف مدير عام جمعية الأيتام بمدينة الرياض، قائلا:هناك أسباب عديدة تتعلق بعدم التحاق المختصين في الخدمة الاجتماعية وعلم الاجتماع وعلم النفس في مجالاتهم بعد تخرجهم وهذه الأسباب (مجتمعة)لا ينفك بعضها عن بعض فضعف تأهيل الأخصائيين الاجتماعيين يأتي في مقدمة هذه الأسباب وهذا يعود إلى مناهج وطرق تدريس الكليات المعنية بهذه التخصصات، وطريقة تأهيل الطلاب وتدريبهم، فلم يتخرجوا وهم مهيأون لهذا المهنة، كما يلاحظ وجود فجوة كبيرة بين ما يتلقاه الطالب أكاديميا وبين واقع العمل في المؤسسات الاجتماعية، وهذه الهوة الموجودة وعدم التوافق ساهم في تشتت كثير من المختصين في هذا المجال، وبالتالي عزوفهم عن العمل في مجال تخصصاتهم، ومن أسباب عدم عمل الأخصائيين الاجتماعيين في أعمال تتناسب مع تخصصاتهم بعد تخرجهم عدم رغبة كثير منهم في ممارسة المهنة لعدم استعدادهم الشخصي والنفسي، ولعدم ميولهم الاجتماعية، فكثير منهم التحق بالمهنة ليس انتماء لها بل لأنه لم يجد قبولا في التخصص الذي يريد وهذه الفئة من الخريجين ليس لهم من المهنة إلا المسمى فقط(الشهادة التي حملوها دون رغبة)، لذا ليس لديهم انتماء لهذا المهنة ولا يهمهم سواء تم تعيينهم في مجال عملهم أو في أي مجال آخر، بل وتجدهم لا يرغبون أصلا بالعمل الاجتماعي ويتهربون منه لأنه لا يناسبهم ولم يتهيأوا له مهما كانت معدلاتهم العلمية فالعمل الاجتماعي، كما يقال عنه:(أنه سهل ممتنع)، سهل لكل من أحب هذا العمل وجاءه برغبة ولديه الاستعداد النفسي والشخصي، بالإضافة إلى التأهيل العلمي، فتجد الأخصائي الاجتماعي يسعد بخدمة عملائه المستفيدين، ويسعد في حل مشاكلهم، وتوفير الخدمات لهم، ومساعدتهم مهما كلفه الجهد والوقت، وقد يكون العمل الاجتماعي ممتنعا لكل من عمل به دون رغبة أو استعداد شخصي، فتجده متذمرا من المستفيدين وكثرتهم، وملولا من الوقت الذي يعمل به، ويعمل لأجل أن يستفيد هو لا لأن يفيد غيره، فالعمل ثقيل عليه والوقت طويل، وهذا الصنف تجده يتمنى ويتحين الفرصة التي تبعده عن هذا العمل. وأشار إلى أن من أسباب عدم عمل الأخصائيين الاجتماعيين في مجال تخصصهم قلة الوظائف التي تتناسب مع مؤهلاتهم مقارنة بأعداد الخريجين، ومن المناسب أن نذكر في هذا الجانب مزاحمة غير المختصين في الوظائف المتعلقة بالأخصائيين، فالذي يلاحظ أن المدارس سواء الحكومية أو الأهلية توظف أعدادا كبيرة من المرشدين الطلابيين غير المختصين، مما يسهم في تقليل فرص التوظيف لدى المختصين، وبالتالي عندما لا يجد خريجو الخدمة الاجتماعية وعلم الاجتماع فرصة توظيف في مجال عملهم فإنهم من الطبيعي أن يبحثوا في أي أعمال أخرى طلبا للعيش.