حين كنت أكتب في جريدة المدينة -وكان الناس يسألونني من أين تأتي بهذه المعلومات الغريبة- كنت أجيب بلا تردد من صفحة "محطات متحركة" في جريدة الرياض.. ولكن حين انتقلت لجريدة الرياض لم يعد بإمكاني الاعتراف بهذه الحقيقية كون الجمهور أصبح مشتركا -ولأنه من غير اللائق دفع القارئ "ريالين" ثمن بضاعة مكررة.. وفي الحقيقة -وبعيدا عن المزاح- أغتنمها فرصة لتسجيل إعجابي بهذه الصفحة المميزة التي اختصرت جنون العالم وغرائبه واستمرت على نفس الشكل والنمط والجودة منذ عرفت الصحف! ويوم الأربعاء الماضي قرأت فيها خبرا أثار في رأسي فكرة قديمة بخصوص الدماغ البشري ومدى مسؤوليته عن أفكارنا وتصرفاتنا وسيطرته على كامل أعضائنا.. فحسب ما نقلته محطة ال CNN عاشت امرأة تدعى ميشال ماك حياة طبيعية وعاقلة دون أن تملك دماغا أيسرا. فقد دخلت المدرسة وتخرجت من الجامعة وبلغت سن السابعة والثلاثين -ولم يبد عليها من الخارج أي مظهر اعاقة أو أي تخلف عقلي.. ولولا اجرائها فحصا طبيا معتادا لم يكتشف الأطباء حالتها الغريبة ولم يكن ليتصور أحد إمكانية عيشها بنصف دماغ فقط.. وما يبدو مرجحا أن دماغها الأيمن سرعان ما تدارك هذا النقص (منذ طفولتها الأولى) وأصبح يقوم بكافة المهام المتوقعة من النصف الأيسر لدماغ الانسان.. وحالة ميشال الغريبة تذكرني بحالة مماثلة ومعروفة أكتشف لدى رجل فرنسي يعيش بجزء صغير جدا من مادة الدماغ.. فحسب ماذكره الدكتور ليونيل فيوليت في مجلة Lancet الطبية (عدد يوليو 2007) يملك هذا الرجل جمجمة عادية ولكنها مليئة بالسوائل بحيث لم يبقَ من دماغه غير "شريحة" عصبية صغيرة. والغريب أنه يعيش حياة طبيعية ومتزوج ولديه طفلان -وإن كان معدل ذكائه أقل من المعتاد. ويفترض الدكتور فيوليت أن الارتفاع المتزايد للسوائل حدث على حساب دماغه الذي تقلص على مدى سنوات طويلة (ولكنه تولى بالتدريج مهام المناطق الأخرى)!! .. وحالات نادرة كهذه تجعلنا نتساءل: طالما يستطيع الإنسان العيش بكلية واحدة، وثلث كبد، وجزء من الرئة، ونصف الأمعاء، وبدون الأطراف، ويستغني عن حواسه الخمس، وجهازه التناسلي كاملا؛ فما الذي يمنع عيشه بنصف أو ثلث دماغ بطريقة طبيعية (ومتزنة)! ... ثم كيف نعرف أصلا أن الدماغ هو المسئول كاملا عن "العقل" والمظاهر الذهنية الراقية .. ألا توجد آيات قرآنية كثيرة توحي بوجود العقل في مكان آخر من الجسم.. فهناك مثلا احتمال وجوده في القلب (لهم قلوب لايعقلون بها) أو الصدر (وليبتلي الله مافي صدوركم) أو كامل الفؤاد (ماكذب الفؤاد ما رأى).. وأنا شخصيا أفرق بين العمليات العصبية التي تجري في الدماغ، والملكات العقلية والذهنية للانسان .. فالأولى مكانها في الجمجمة بالتأكيد حيث مراكز الاحساس والتحكم بالعمليات البيولوجية المعروفة (كالتنفس وتحريك الاطراف). أما الملكات العقلية فليس بالضرورة تواجدها داخل الجمجمة؛ وقد تكون مظهرا لتفاعل الجهاز العصبي بأكمله أو نتيجة ثانوية للتبادل الكهربائي والكيميائي للاعضاء الداخلية!! .. وفي الحقيقة الجزء المعقد من السؤال لا يتعلق بكتلة أو مادة الدماغ أو مسؤوليتها عن بعض الوظائف الحيوية (كالرؤية والسمع والاحساس بالألم) بل في تبلور مفهوم "العقل" و"الوعي" داخل الانسان وعجزنا عن تحديد مواقع الملكات الذهنية الراقية / كالضمير والحب والوفاء والمبادئ والشعور بالمسؤولية؟؟ .. ثم كيف نتوقع من "عقل" يخفى علينا موقعه شرح نفسه وإخبارنا بطريقة عمله؟!!