النفور من العلم والخوف منه، ومحاولة إقفال الباب دون منجزاته النظرية، مثلما هو التوجس من الفلسفة، هي صفات مجتمعات ما قبل الحداثة التي لم تبرح بعدُ معاطن التقديس التلقائي ل"الأفكار المتلقاة". وهو خوف له مبرراته في البنية الثقافية لتلك المجتمعات، إنه هاجس الخوف من نقض ما يُعتقد ب"ثباته وقدسيته"، أو التشكيك فيه على الأقل. ذلك التقديس الذي يجعل من محاولة نقد الأفكار التراثية، في رحلتها الأبدية نحو القدسية، أو إدخالها في دائرة الشك محاولة غير محمودة العواقب!. ورصد آليات تلك المجتمعات في التعامل مع العلم ونتائجه ينبئ عن أن النفور لا يتمثل في رفض الأساس الفلسفي/الفكري الذي يقف وراء المنجز المادي للعلم، وهو الشائع من تلك الآليات، بل يتعداه إلى الفرح الطفولي بما يستجد على ساحة العلم من نظريات أو أبحاث يعتقد سدنة التقليد وحراس الكهنوت أنها تنقض أو تعدل ما أثبته سابقا، فتبدو الأنا وكأنها منتشية بانتصار حاسم حققته في معركة وهمية هي من أنشأها حماية لما تعتقد أنها حمى المقدس من أن تُُمس بحقائق العلم، ليعيدوا، بموقفهم الجديد/القديم، ذلك التنافر والعداء اللذين سدا علاقة العلم بالإيمان إبان العصور الوسطى. وهو عداء صنعه حراس الكهانة على مختلف مستوياتها خوفاً من دك حصونهم الكهنوتية التي لا يستقيم لها وزن إلا بمصاحبة الخرافة والنظرة السحرية للعالم، وهي أول ما يتنافى مع مبادئ العلم. ذلك السلوك القروسطي، (نسبة للعصور الوسطى)، كان سمة أصيلة للشعوب الأوروبية، قبل أن تُطهرها رياح التنوير. فقد كانت تناطح به كل ما يأتي به العلم من حقائق تصدم حساسية الإيمان، أو ما يعتقد أنه من الإيمان. وهو إذاك إيمان الكنيسة الكاثوليكية الجاثم على العقول والقلوب والأبدان. يقول الدكتور: هاشم صالح في كتابه: (مدخل إلى التنوير الأوروبي)، فيما ينقله عن: إيتيان جيلسون في كتابه: (الفلسفة في العصور الوسطى)، ما نصه: "كما أن فكر الفيلسوف في أيامنا هذه لا يمكن أن يتم إلا على قاعدة المبادئ العامة للعلوم التاريخية والاجتماعية، فإن فكر الفيلسوف في العصور الوسطى لم يكن يتم إلا على قاعدة العقيدة اللاهوتية المسيحية. وكما أننا لا نناقش أولوية العلم اليوم، فإنهم ما كانوا يناقشون أولوية الإيمان ولا يطرحون عليها أي سؤال". ويقول: (=هاشم صالح)، في موضع آخر من كتابه: " .... ولذلك اعتبرت الاكتشافات العلمية في البداية (=بداية النهضة الأوروبية)، بمثابة تجديف أو كفر أو فضيحة لا تحتمل!". ويقول في موضع آخر أيضاً: " كان إنسان العصور الوسطى (= في أوروبا) يعتقد بإمكانية التوصل إلى الحقيقة الكاملة والمعرفة المليئة عن العالم بمجرد قراءة النصوص. فالحقيقة كلها مودعة في الاعتقاد أو قانون الإيمان المسيحي. يلخص (روجيه بيكون) هذا الموقف بما معناه: لا يوجد إلا علم واحد كامل وتام أعطاه الله للإنسان من أجل التوصل إلى غاية واحدة: هي النجاة في الآخرة، دار النعيم والخلود. وهذا العلم متضمن كله في الإنجيل. ولكن ينبغي شرحه وتفسيره عن طريق القانون الكنسي، (أي عن طريق حراس الكهنوت). وكل ما هو مضاد لهذا العلم المقدس أو غريب عنه فهو خاطئ ولا معنى له". والسؤال هنا هو: هل ثمة اختلاف يمكن أن يلحظه المرء بين ما كان يعتقده المسيحيون القروسطيون في "الإعجاز العلمي" في الإنجيل، عما تقول به وتعتقده اليوم لدينا جماعات ما يسمى ب "الإعجاز العلمي" في القرآن والسنة؟. ولعل من العدل القول إنه إذا كان هذا التصور القروسطي للعلم هو الذي كان سائداً في مجتمعات أوروبا في العصر الوسيط، فإنما ما نفضلهم به نحن في عالمنا العربي والإسلامي اليوم هو أننا تلبسنا موقفاً لا يعبر إلا عن انفصام خطير في الشخصية، متمثل من التهافت على قبول النتاج المادي للعلم بكل ما يقذف به من جديد، وفي نفس الوقت، رفض الأساس الفلسفي الذي قام عليه للوصول إلى هذا النتاج المادي التكنولوجي الذي يسيطر على حياتنا من كل جانب!. ورفض الأساس الفلسفي للعلم ليس إلا خوف أو اعتقاد بمخالفته لثوابت دينية معينة. وبالتالي، فالمنطق يقتضي، لكي يكون الإنسان مطرداً مع مبادئه، أن يرفض النتاج المادي للعلم مثلما رفض أساسه الفلسفي. ولذلك فأنا أقف تعظيماً واحتراماً لأولئك الزهاد الذين عايشناهم سابقا، ولانزال نعايش أفراداً منهم منبثين هنا وهناك، وهم يرفضون التعامل مع المنتجات المادية للعلم، ويفضلون العيش بوسائل بدائية. واحترامنا لهم لا يعني موافقتهم على ما يعتقدونه، بقدر ما يعني احترام منهجهم القائم على الاطراد بين السلوك والمبادئ. عكس أولئك الذين يتعاطون مع أحدث منتجات العلم المادية: الانترنت وخدمات الهواتف النقالة، والطائرة، والسيارة ويرفضون، في نفس الوقت، بديهيات أساسه الفلسفي التي لا يقوم إلا بها. أحدث فصول النفور من العلم ينبعث هذه الأيام من عالمنا العربي والإسلامي، (الرازح في قروسطيته)، على وقع ما نشرته المجلة العلمية الأمريكية: ساينس Science في الثاني من أكتوبر الحالي من نتائج لبحوث قام بها زهاء أربعين عالماً أمريكياً استمرت جهودهم لمدة رَبْتْ على خمسة عشر عاما على أقدم هيكل عظمي للإنسان البدائي: (عمره التقريبي:4.4 ملايين سنة)، والذي أطلقوا عليه اسم: أردي. وهي تسمية مشتقة من لفظتي: Ardipithecus ramidus التي تشير إلى الأصل. ويكمن ما أثار نفور جماعة الإعجاز ومريديهم في النتائج الجديدة فيما أعلنه أولئك العلماء في بحوثهم على تلك الأحفورة، من أن الإنسان الحالي لم يتطور عن الشامبانزي، كما كانت تعتقده نظرية: النشوء والارتقاء، أو الاصطفاء الطبيعي لعالم الأحياء الإنجليزي: (ريتشارد داروين، 1809 1882م)، وأنهما ربما انحدرا سويا من أصل مشترك لا يزال حتى اليوم غير مكتشف بعد: (قارن: الحلقة المفقودة التي تحدث عنها داروين). وأن كلا من الإنسان وأشباهه من القردة العليا كان لهم مسارات مختلفة من حيث التطور بعد انفصالهم عن الأصل المشترك. نحن هنا لسنا معنيين باستعراض تفاصيل تلك الاكتشافات البيولوجية الجديدة، ولا بما أضافته أو عدلته بالنسبة لما تقوله نظرية: (النشوء والارتقاء)، بل نحن معنيون، تحديداً، بالكيفية التي استقبلها بها الوسطان: العربي/الإسلامي من جهة، والعالمي من جهة أخرى، لنحدد، من خلال مقارنة الموقفين، ملامح جدلية التقدم والتخلف الكامنة وراء ردة فعل كل منهما تجاه النتائج الجديدة. كانت قناة الجزيرة سباقة إلى افتراض نقض النتائج الجديدة لنظرية النشوء والارتقاء، فروجت للنتائج الجديدة تحت يافطة كبيرة عنوانها: "أردي تطعن بصحة نظرية داروين". واستضافت، لذلك، أحد كهنة ما يسمى ب "الإعجاز العلمي" ليعلن، قبل أن يطلع على نتائج الأبحاث الجديدة، أن نظرية داروين قد سقطت، وأن الغرب بدأ يثوب إلى رشده!. يا سبحان الله، هذا الغرب الذي يسود الكون: علماً وفلسفة وأخلاقَ عملٍ وقانوناً وأنظمة كان، في رأي كبير كهنتنا، غارقاً في غيه من رأسه إلى أخمص قدميه، لكن ما أن أحس (=كبير الهكنة!) بوعيه الزائف أن هذا الغرب، الذي تتحكم القوانين العلمية بنظرته للكون، قد توصل إلى نتيجة "تشكك" في نظرية علمية، يحس هو ومن معه من المسجونين في كهف "الإعجاز العلمي"، أنها تخالف ظاهر نص ديني إسلامي، حتى تنفس الصعداء وأعلن أن الغرب بدأ يستعيد رشده!. وهذا الرشد الذي ينشده صاحبه للغرب ليس إلا نكوصاً على الأعقاب إلى حيث مرابع الكهنوت، وأنى للغرب أن يعود إليه بعد ان حرره التنوير منه!. وهذا الربط بين نقض الداروينية وبين العودة الغربية للرشد حسب رغبة صاحبنا، يثبت إلى أي مدىً وصل إليه وعينا العلمي!. فالعلم عند صاحبنا ليس جديراً بالتسمية إلا عندما يكون مبنياً على نتائج ثابتة لا تتطور لا تتبدل. بينما العلم، في حقيقته المعاصرة، لا يستحق هذه التسمية إلا إذا كان ذا ثبات نسبي قابل للتطور والتغير، بل والنقض أحيانا. أما صحيفة الخليج الإماراتية فروجت للنتائج الجديدة تحت عنوان: "هيكل أردي ينسف نظرية داروين"، رغم أنها، أعني النتائج الجديدة، على عكس ما تزعم الصحيفة وتتمنى، تدعم الداروينية، خاصة بالحديث عن الحلقة المفقودة. وهذا اللجج والفحيح والفرح الطفولي الزائف بالنتائج الجديدة ناتج من افتراض أن نظرية "النشوء والارتقاء، أو الانتخاب الطبيعي" تؤكد أن الإنسان تطور مباشرة عن الشامبانزي، بينما كتاب: أصل الأنواع لداروين، الذي أودع فيه نظرية النشوء والارتقاء، لا يفيد، حسب الدكتور فريد العليبي، أن الإنسان انحدر مباشرة من الشامبانزي. وعلى الضفة المقابلة، وهذا ما يؤكد المسافة الضوئية بيننا وبين العالم المتقدم، فقد استقبلت وسائل الإعلام الغربية النتائج الجديدة لأبحاث أردي بشكل يؤكد على أنها تمثل دعماً جديداً للداروينية. فعلى سبيل المثال، تحدثت: فرانس سوار الفرنسية عن الحدث الجديد بعنوان: "عندما تدفع أردي الإنسان والقرد نحو أصولهما". بينما أكدت قناة: CNN الأمريكية أن: أردي تؤكد نظرية داروين. والغريب أن هذا الوعي الزائف والنفور من العلم، بل والوحشة منه، يزيد في عالمنا العربي والإسلامي، درجة ونوعية، كلما تقدم به الزمن، في وضع معكوس تماما لما يفرضه واقع عالم اليوم، فأسلافنا، على العموم، كانوا أقل حساسية منا فيما يتعلق بنتائج العلم التي ربما تخالف بعض ظواهر النصوص الدينية، وبالتفصيل، فإن الأسلاف الأقربين كانوا أقل حساسية من خلفهم اليوم، والأسلاف الأبعدين كانوا بدورهم أقل حساسية من الأسلاف الأقربين لنا وهكذا. فموقف الأسلاف الأقربين يمكن معرفته مما كتبه الدكتور حمزة المزيني، في مقال له بعنوان: "آفة الأخبار رواتها" من أن "عباس محمود العقاد لم ير، فيما كتبه عن نظرية النشوء والارتقاء، تهديدا للإيمان بأن الله هو الخالق. فيما كانت الحال لدينا في المملكة قريبة من ذلك، فقد كتب الشيخ محمد أحمد باشميل كتابا يصوِّر حواراً بين شيخ وتلميذه يناقشان، بحياد واضح، الأدلة المؤيدة والمعارضة لهذه النظرية. وانتهى الشيخ إلى أنه يمكن تأويل هذه النظرية بطريقة لا تجعلها تصادم الإيمان بالله خالقا".أما موقف الأسلاف الأبعدين فسنؤجل الحديث عنه إلى الجزء التالي من هذا المقال.