يمتلك كل ناقد أو مُتذوق معايير مُعينة يستطيع من خلالها الحكم على القصيدة بالجمال والجودة أو القبح والرداءة، ويتمكن بواسطتها أيضاً من الموازنة بين الشعراء والمفاضلة بين قصائدهم، وتحديد مواطن الجمال والقبح في القصيدة التي يستمع لها أو يقرأها، ومع ذلك تظل بعض الأشعار مع روعتها وعظيم تأثيرها في النفوس عصيةً على التحليل والاكتشاف، وتبقى جوانب التأثير فيها خفية بحيث يصعب أن يضع الناقد أو المتلقي إصبعه عليها، لذلك فقد تحدث بعض النُقاد عن "البُعد الذي لا يُمكن للتحليل أن يتناوله" في النص الشعري، ومن هذه النقطة تحديداً جاء الحديث عن (سحر) القصيدة وربط الشاعر بالساحر بصلات عديدة سنشير لبعضها هنا. فمنذ القدم أدرك بعض الشعراء أن لقصائدهم أثراً سحرياً في نفوس المُتلقين، وسعوا إلى امتلاك ما يودون امتلاكه عن طريق سحرهم الخاص [قصائدهم]، فقد أخبرنا أبو نواس بأنه استطاع إلانة وامتلاك قلب جارية كان يعشقها بواسطة سحره/شعره: فما زلتُ بالأشعار في كل مَشهدٍ أُلينُها، والشعرُ من عُقدِ السحرِ إلى أن أجابت للوصال واقبلت على غير ميعادٍ إليَّ مع العصرِ وكذلك لا يهتم الشاعر المعروف ضيدان بن قضعان بالإجابة عن السؤال حول الأصل الذي ينبع منه شعره: هل هو (الموهبة) أم (الوراثة)، لأن ما يهمه أكثر هو أن الشعر بالنسبة إليه كالسحر الذي يُساعده على اختصار المسافات، وتسخير القلوب والاستحواذ عليها: قالت وهي تو إتثنى كن ما فيها خصر الشعر يا ضيدان ورث جدود وألا موهبه؟ قلت الشعر سحرٍ يسخر لي قلوب ويختصر عمر المسافات الطويلة والسنين المجدبه وفي قصيدة أخرى يقول ابن قضعان عن الشعر بأنه (لعبة سحر)، ويوضح لنا أن إحساسه كشاعر يُماثل إحساس (السلطان) الذي مكنه الله جل وعلا من امتلاك الدنيا بما فيها! ولابن طباطبا العلوي كلام مشهور عن الشعر/السحر في مؤلفه (عيار الشعر) حيث يقول: "فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التام البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم، وكان أنفذ من نفث السحر، وأخفى دبيباً من الرقى، وأشد إطراباً من الغناء، فسل السخائم وحلل العقد"، فكما نلاحظ من هذا الكلام فابن طباطبا مُقتنعٌ بأن القصيدة إذا توفرت فيها الخصائص التي ذكرها أصبحت (أنفذ) وأكثر تأثيراً من السحر، ويمكن أن نضيف إليها أيضاً العديد من الخصائص التي تحدث عنها الدكتور مبروك المناعي في كتابه (الشعر والسحر) ورأى فيها (طاقات) مُشتركة تجمع بين الخطابين الشعري والسحري، وأبرزها بحسب رؤيته: الوزن والتقفية والتجنيس والتكرار والترديد والمجاز والرمز، بالإضافة إلى المسألة الأهم وهي (التمويه والتخييل والخُدعة)، فالشعر كما قيل عنه يُري الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، ومع الأسف فكثير من الشعراء في وقتنا الراهن لا يحرصون على أن يكون لقصائدهم سحر خاص يُثير المتلقين، فتكون أشعارهم أشبه ما تكون بالكلام العادي الذي نستمع له في نشرات الأخبار أو في المجالس والشوارع.