لم يعد من الصحيح الحديث باحتقار عن السياسة والسياسيين وكأنهم كائنات شريرة. في الواقع أن العمل في السياسة وظيفة رائعة ومهمة لأنها تساهم في صنع التاريخ بشكل مباشر ولأنها "عمل يتطلب الاشتغال على قضايا كثيرة ومحاولة صنع الأفضل منها" كما قالت الزوجة السابقة للرئيس الفرنسي ساركوزي سيسليا في حوار أخير لها مع قناة العربية. في الواقع لقد أثبت السياسيون في أوقات كثيرة قدرتهم على التدخل بشكل إيجابي في الكثير من النشاطات التي يفضل دائما أن يكونوا بعيدين عنها، مثل ما حدث في الاقتصاد مؤخراً حيث لجأ الجميع إلى السياسيين الذين مازالوا يقومون بالدور الأكبر لإصلاح الوضع الاقتصادي العالمي المتعثر. وأيضا يمكن الحديث أن بعض السياسيين المستبدين قد أحدثوا نتائج ايجابية في بلدانهم مثل ما قام به زعيم سنغافورة الأسطوري لي كوان يو. القصد أن العاملين في السياسية يمكن أن يقوموا بأشياء إيجابية جداً في مجالات عديدة إلا في مجال الإعلام. تدخل السياسيين والحكومات يبدو جدلياً في الكثير من المجالات ولا يخضع لقاعدة واحدة. حتى في التعليم تمكنت الكثير من الحكومات المتنورة بوضع نظام تعليمي مميز ونافع لعقول الطلاب. لقد كان للسياسيين أيضا دور أكبر في إحداث نقلات حضارية كبيرة لبلدانهم. لنتذكر فقط ماقام به بطرس الأكبر في روسيا وكاترينا الثانية التي احتضنت فلاسفة التنوير، كما أن سلالة الميجي هم من دشنوا اليابان الحديثة. ولكن مع الإعلام فالأمر مختلف جداً، كما يبدو، صحيح أن هناك بعض الحكومات التي ترعى بعض المحطات المستقلة، ولكن ذلك فقط الاستثناء وليس القاعدة. ولكن مثل هذا الوضع ينطبق بشكل أفضل على المنطقة العربية حيث يظهر إلى أي درجة تعبث فيها السياسية بالإعلام لدرجة حولته إلى تابع له وصوت لمصالحها وأهوائها ورغباتها، وحتى إلى تناقضاتها. من أبرز القضايا التي تكشف إلى أي درجة بات الإعلام العربي ألعوبة في يد السياسة ويتلون بألوانها المتعددة. طبيعة الإعلام والسياسة متعارضان جوهرياً، فهي متلونة وسرية وهو ثابت وفضائحي. ولكن عندما يندمج معها فإنه يفقد روحه. ويتحول إلى شيء يشبه الإعلان وليس الإعلام. في الإعلام غير المسيطر عليه سياسياً، يظهر الكتاب أو الصحافيون أو مقدمي البرامج بصورة مستقلة تعبر عن وجهات نظرهم، وهم يغيرون وجهات نظرهم بناءً على تغير المعطيات والمسارات، ولكن في الإعلام الواقع تحت تأثير السياسية فإن الإعلامي بحاجة إلى معرفة أين تهب الرياح السياسية حتى ينسجم معها، ومن المتوقع جدا أن ينعكس مسار هذه الرياح بشكل مفاجئ الأمر الذي يضطره إلى إحداث تغيير كامل في المسار. هذا العمل يعبر عن طبيعة السياسي بشكل كامل ولكنه يفقد الإعلامي قيمته الحقيقية. من المعروف أن الساسة تصنع الأبواق التي تدافع عنه، وهذه موجود في أماكن متعددة في العالم العربي، ولا بأس في ذلك. ولكن هذا التأثير السياسي في العالم العربي بات طاغياً لدرجة ألغى تماما الفرص لنهوض إعلام متحرر جزئياً من القيود السياسية. من الواضح تماما أن السياسة لا تترك فرصة عبر نفوذها الكبير والمسيطر على غالبية المحطات والصحف العربية بترك حيز ولو ضيقاً من المتنفس لهذا الصوت الإعلامي ليعبر ببساطة عن نفسه، وأمام هذا الضغط ينزلق الجميع مضطرين مع الموجة التي توجهها السياسة. لقد شهد العالم ذلك أيام هتلر عندما تحول الإعلام الألماني إلى مجرد بوق للنازية، وكذلك أيام صدام، وهذا يحصل في العالم العربي على مستويات متفاوتة. وفي الواقع من هنا أيضا تبرز قوة الإعلام حيث بالنسبة للسياسيين حيث من الصعب الاستغناء عنه. ليس الإعلام فقط، بل الأشخاص المتمرسون في الإعلام والأذكياء هم القادرون على تسويق المشاريع السياسية. باختصار يمكن القول الآن: أن الساسة العرب يخلقون الأحداث والإعلاميون المحترمون عبر مواهبهم وذكائهم يمنطقونها. لو لاحظنا المشهد الإعلامي في المنطقة العربية كلها نجدها خاضعة بشكل شبه كامل، وبطرق متفاوتة للتأثير السياسي عبر طرق متفاوتة. لهذا نشهد زخماً كبيراً من المحطات المتحاربة ليس لأن الإعلاميين داخلها متعارضون بل لأن السياسيين يريدون منها ذلك. وقد شاهدنا في السنوات الأخيرة عدداً من المحطات التي تشن هجوماً شرساً ورخيصاً على دول معتدلة في خطابها مثل السعودية ومصر، وكان من الواضح أن هذا الهجوم في حقيقته سياسي ولكنه ينفذ بأدوات إعلامية. واضح أن ما نقوله ينزع إلى مثالية كبيرة، هذا صحيح. فمن غير المنطقي في هذه الأيام التي تملك فيها الحكومات العربية القنوات والصحف أو تفرض عليها قيوداً، وتملك عليها نفوذاً، أن يتم الحديث عن إعلام مستقل يمكن الإشارة إليه، أو إلى كتاب يجب عليهم أن يخوضوا حرباً مستحيلة. ولكن أيضا من المحبط القول إن الإعلام لا ينتعش إلا بعيداً عن قبضات السياسة الفولاذية، وإذا تأملنا الإعلام الغربي مثلا ً فلقد ازدهر في بيئة من الحرية لم تستطع الحكومات القضاء عليها. أما بالنسبة لوضعنا في هذا العالم الذي لا تنبت فيه أعشاب الحرية أبداً، ليس هناك من أمل إلا بأن تتخلى الحكومات والساسة طوعاً عن التحكم برقاب الصحافيين وجعلهم يمارسون دورهم الحقيقي. في الواقع كما يعلمنا التاريخ الساسة بحاجة إلى سبب قوي حتى يفعلوا ذلك وإذا اعتمدنا على هذه الرؤية فلن يحدث شيء يذكر لأن الصحافيون في هذه الفترة أضعف من أن يعارضوا السياسيين المتحكمين بمصادر رزقهم . ولكن أيضا يمكن أن ينفتح السياسيون وتتنور عقولهم بعد مرور السنوات ويعيدوا للإعلام دوره الحقيقي الذي لم يلعبه على الإطلاق. صحيح أن هذه معجزة ولكن التعلق بمعجزة يمكن أن تتحقق أفضل من انعدام الأمل نهائياً.