الزمن دائما كفيل بتلقين الدروس للجميع وقلة هم أولئك الذين لم يلقنهم الزمن درسا غيّر في مسيرتهم وحياتهم، إن دروس الزمن كفيلة أيضا بنشر منهجية جديدة للتعامل مع الواقع المحيط بنا سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الاجتماعي. قبل أيام حلّت الذكرى الثامنة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر وبغض النظر عن كل معطيات رواية الحادي عشر من سبتمبر فما يهمني هنا هو إثارة الأسئلة الصحيحة عن آثار هذه الحادثة على مجتمعاتنا. هنا لابد من الإشارة إلى أن أمريكا لم تشهد عملية واحدة للقاعدة بعد هذه العملية، بينما شهد العالم الإسلامي مئات العمليات الانتحارية والتخريبية للقاعدة وهذا يدعونا إلى سؤال منطقي يقول: إذا كان بعضنا لا يعترف برواية أحداث الحادي عشر من سبتمبر وأنها من صنع القاعدة فهل ينطبق عدم اعترافه هذا على تلك العمليات التي قامت بها القاعدة في عالمنا الإسلامي ومجتمعاتنا..؟ بينما تعلنها القاعدة دون خوف أو وجل ومن مناطق ليست محتلة لأمريكا ولا لأي دولة معادية. هنا أول خيط للخلط الكبير في المفاهيم التي أربكت المجتمعات الإسلامية وحاول الكثير من الكتاب والمثقفين شرحها للسياسة وللثقافة المجتمعية حول مفهوم القاعدة وفكرها. إن نفس الأفكار ونفس الأشخاص الذين اعترفوا بقيامهم ونجاحهم في تدمير برج التجارة العالمي هم نفس الأشخاص ونفس الأفكار التي نشرت على موقعها قبل أيام تبنيها لمحاولة اغتيال سمو مساعد وزير الداخلية وقد نرى خلال أيام الظواهري عبر تسجيل مسموع أو مشاهد تبنيه لتلك العملية القذرة والوعيد بأمثالها كما فعلوا عندما تبنوا الأحداث السبتمبرية الشهيرة. الإشكالية التي وقعنا فيها وخلطت الأوراق وتداولها الكثير من أفراد المجتمع أنهم تبنوا الدفاع عن القاعدة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر دون أن يدركوا أنهم هم من شجعها على تبني المزيد من العمليات في المجتمعات المسلمة، هذه احد الأسباب الرئيسة خلف ما نحن فيه الآن من عدم وضوح المفاهيم حول الفكر المتطرف والمنحرف وتقدير ماهيته. قراءة القاعدة وفق هذا المنظور للشارع الإسلامي هي التي جعلتها تتبنى خط المواجهة لأنها اكتشفت أن أفرادا في المجتمعات الإسلامية تتبنى قضيتها وتدافع عنها وتبرئها من أحداث الحادي عشر من سبتمبر ولو كان العكس لما شاهدنا نصف هذه العمليات التي تبنتها القاعدة في عالمنا الإسلامي. لقد وضعت القاعدة فكرة العداء للغرب وفكرة الخلافة الإسلامية مصيدة كبيرة للثقافة الإسلامية ومجتمعاتها المسلمة وخلطت من خلال هذه الفكرة السياسي بالديني بالاجتماعي في خلطة عجيبة من الإيديولوجيات الثورية. لقد برز أصحاب الأفكار المتشددة دينيا ضد الغرب والمختلفين دينيا معهم مستثمرين فكرة مؤامرة الغرب على الإسلام ليبرأ القاعدة من فعلتها دون أن يدركوا كم من الدعم المعنوي تم تقديمه لها، وهذا سبب لعدم تجفيف منابع الإرهاب ومجنديه. كل ذلك تم ونحن ظاهريا نجرّم القاعدة على أفعالها في الداخل الإسلامي بينما نبرئها من فعلتها الأكبر والتي شكلت منطلقا لكل عمليات القاعدة التي دمرت في العالم الإسلامي وحصدت الكثير من الأرواح في عملياتها الإرهابية. لقد تداول العالم والشباب المسلم بشكل خاص الكثير من الصور والايميلات التي تحاول تبرئة القاعدة من أحداث سبتمبر، حيث يشاهدها الشباب من خلال فكرة عدائهم للغرب وغيره والتي زرعت بطريقة فكرية ساهمت بها فلول الصحوة الإسلامية التي اجتاحت العالم الإسلامي وكرست مفاهيم الحرب والجهاد ضد الغرب. لقد أصبح من الصعب على مجتمعاتنا فهم معادلة فكرية تكرست بين أفرادها مكونة من ثلاثة أضلاع هي (القاعدة، الغرب، الإسلام) لقد استطاعت الصحوة منذ بداياتها على يد جماعة الإخوان المسلمين وما تلاها من جماعات خلال العقود الماضية أن تكرس فكرة سياسية خطيرة تبنتها القاعدة بكل خبث تمثلت في غرس مفهوم العداء للغرب وجعله ركنا من أركان العملية الإيمانية للمسلمين. فكرة العلاقة مع الغرب قامت على اقتناع الكثير من الشعوب الإسلامية بان الحكومات الإسلامية تشارك الغرب في العداء للدين وهنا كانت الأزمة الحقيقية، حيث إن الحوار السياسي أو المبادرات الدبلوماسية بين الدول الإسلامية والغرب تصنف من قبل المجتمعات الإسلامية على أنها تنازلات لصالح الغرب وليس ممارسات سياسية قائمة على منهجية سياسية تراعي مصالح الشعوب والدول. إن وجود فكر القاعدة في العالم الإسلامي ودوله بعد أكثر من ثماني سنوات على أحداث سبتمبر يجب أن يفسر بطريقة فكرية وثقافية قبل كل شيء فلو أن القاعدة تم رفضها بكل ما أتت به إلى العالم الإسلامي فكريا واجتماعيا لما استطاعت أن تبقى وتتبني أفكارا وتجند أفرادا وتزرع خلايا كما تفعل هي الآن. لقد أصبح من الصعب على مجتمعاتنا أن تفكر بطريقة تستل بها فكر القاعدة من الفكر الديني السائد ليس كممارسات للقاعدة فكما ذكرت هي مرفوضة ولكن كأفكار ورؤية خفية تخدم القاعدة وأفكارها بشكل مباشر فقد ملئت أسماعنا بأفكار تقول إن ذنوب المجتمع هي سبب ما يحدث له فهل ذنوبنا يكفرها تبنينا لأيديولوجيات العداء للآخرين والعزلة عن العالم كما تريد أفكار الانحراف والتطرف مجرد سؤال..؟ . التنوير هو الحل الوحيد وهو الخطاب الأكيد لحل هذه التداخلات فكر القاعدة متأصل في مجتمعاتنا الإسلامية ويجب انتزاعه من جسد العالم الإسلامي بطريقة ماهرة وذلك بعزل القاعدة سياسيا وعدم التردد في إثبات أن القاعدة فكرة سياسية وليست دينية هدفها الثورة على العالم الإسلامي وحكوماته وتأسيس خلافتها المنتظرة. يجب علينا أن لا نناقش اليوم كيف كانت أحداث سبتمبر لنبحث عن فاعل لها بينما تتبنى القاعدة كل عملياتها بيننا وتقتل الأبرياء ونحن نبحث على الجانب الآخر تبرئتها دون أن نشعر، علينا الاعتراف بان القاعدة خلف كل الإرهاب الذي يشهده العالم بل أصبحت استثمارا ناجحا لكل من يريد أن يسئ إلى الإسلام ودوله. يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا بعيدا عن التمويه لنقول الحقائق فإذا كنا محاربين فلماذا نحن محاربون ومن يحاربنا...؟ إن كل فكر يرى أننا مذنبون بحق إسلامنا لمجرد أننا نريد أن نعزز وطنية أبنائنا بمعرفة وطنهم وحدوده الجغرافية وتاريخه هو فكر لا يختلف عن القاعدة وأفكارها، أو كل فكر يرى أن التطوير والتغيير في الخطاب الديني وتجديده ذنب كبير، إنما هو فكر يتبنى منهجية القاعدة وان لم يكن معها. القاعدة تحاربنا لأنها تريد أن تبني خلافة إسلامية تسود الشرق والغرب كما يعتقدون ويروجون لمفاهيم الأمة والخلافة، وهذا مستحيل مستحيل لان أكبر ثلاث دول حكمت العالم الإسلامي نسبت إلى مؤسسيها (الأمويين، العباسيين ، العثمانيين) فهل يدرك الصحويون والمتشددون هذه الأفكار ومن خلفهم القاعدة. إن إشكالية الإسلاميين المتشددين والصحويين والمتطرفين والجماعات الإرهابية أنهم لا يعترفون بحاجتهم إلى التنوير عندما تحدثهم عن التنوير أو الحداثة أو التطوير، لديهم اعتقاد بأنهم متنورون والعالم المتطور الذي وصل إلى القمر واخترع أعظم المخترعات هم الذين بحاجة إلى التنوير وهذه إشكالية وتحد كبير للمسلمين. التنوير والتطوير يشكل رعبا لأولئك فهم يخشون أن تغيّر أفكار المجتمع عن تلك التي رسموها ولم يرسمها حديث نبوي أو آية كريمة، يريدون أن يحتكروا التفسيرات لكل ما وقع بين أيديهم. التنوير هو الحل الأمثل مع الأجيال الصاعدة حول الدين ودوره الاجتماعي وهذا أقل ما يمكن أن يؤدى لتخليص المجتمع من تلك الأفكار المتداخلة ولعلي هنا أختم بأصعب سؤال يمكن إثارته: ما هو دور الدين الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين وكيف نريده ..؟.