أكتب هذا الأسبوع من بروكسل – عاصمة الاتحاد الأوروبي - حيث تنفس المسؤولون الأوروبيون الصعداء لدى صدور قرار المحكمة الدستورية الألمانية الذي قضى بأن اتفاقية ليشبونة لاتتعارض مع القانون الألماني، مفسحاً بذلك المجال لمصادقة البرلمان الاتحادي الألماني Bundestag على الاتفاقية. وكان قادة الاتحاد الأوروبي قد أقروا الاتفاقية لوضع الخطوط العريضة لمستقبل الاتحاد، معطية سنداً قانونياً قوياً لمزيد من التكامل بين دوله، وتتطلب الاتفاقية مصادقة جميع الدول الأعضاء السبع والعشرين لوضعها موضع التنفيذ. وقد أثارت الاتفاقية، مثل خطوات التكامل التي سبقتها، قلق القوى الأوروبية المحافظة في بعض الدول، التي ترى في الاندماج تهديداً للخصوصية والتنوع الثقافي لتك الدول، وتهديداً للمزايا التي تتمتع بها داخل تلك الدول. وفي أوروبا اتجاهان، أحدهما متحمس للاتحاد والانصهار، ويدفع بهذا الاتجاه المهتمون بالاقتصاد والتجارة، حيث إن الفوائد الاقتصادية للتكامل الأوروبي واضحة للعيان، كما يدفع به أحزاب اليسار والوسط التي ترى في الاتحاد الأوروبي إعلاءً للقيم الإنسانية التي تؤمن بها تلك الأحزاب مقابل الإقليمية الضيقة بل التوجه المتعصب لبعض أحزاب اليمين، في حين يتخوف اتجاه المشككين أو Euro-skeptics من الآثار الثقافية والاجتماعية للانصهار بين دول لا يجمع بينها لغة واحدة أو ثقافة واحدة أو تاريخ واحد، ومن الناحية الاقتصادية قد يكون للاندماج الاقتصادي لبعض المصالح الاقتصادية للشركات والمؤسسات التي تتمتع بوضع احتكاري قوي تهدده المنافسة الأوروبية، حيث يعتبر قانون المنافسة الأوروبية سيفاً مسلطاً على الممارسات الاحتكارية أثبت فعاليته في كثير من الحالات. وتمثل اتفاقية ليشبونة حلماً للمتحمسين للتكامل الأوروبي، إذ تعطي الجهاز التنفيذي الأوروبي صلاحيات أوسع نحو مزيد من خطوات الاندماج والتكامل، خاصة في المجال الاقتصادي والسياسية الخارجية. ويضع المتشككون أملهم على المدى القصير في إفشال المصادقة على اتفاقية ليشبونة، وفي حال تمت المصادقة عليها، فمن المتوقع أن يسعوا من خلال البرلمان الأوروبي إلى تضييق نطاقها. وفي الانتخابات البرلمانية الأخيرة للاتحاد الأوروبي، انتصر اليمين المتشكك، مما يعطيه دوراً في وضع حد للاندماج الأوروبي، سواء أتمت المصادقة على اتفاقية ليشبونة أم لم تتم. ومن أحد أهم النتائج لفوز اليمين تحديد مستقبل الأعضاء الرئيسين في المفوضية، حيث ما زال مصير رئيس المفوضية نفسه (إمانويل باروسو) معلقاً، وإن كان حظه أوفر من حظ بعض المفوضين مثل بينيتا فالدنر فيريرو (مفوضة العلاقات الخارجية) التي أصبح من شبه المؤكد أنه لن يجدد لها. ولهذه الأسباب، ستشهد الأشهر القادمة والسنوات القليلة القادمة الكثير من الجدل في أوروبا بين القطبين المتناقضين حول تحديد مسار التكامل الأوروبي في الاقتصاد والسياسة والأمن والدفاع، وقد نتعلم الكثير من ذلك الجدل في تحديد مسارات التكامل في منطقتنا.