توق النفس الإنسانية إلى التخفف من قيودها ، جعل محاولة امتزاجها مع حركة عوالمها محطات فطرية في وجودها ؛ يأنس الجبلي، والصحراوي ، والمزارع في مرعاه ، وصيده ، ومتابعته لشواغله إلى صدى الأصوات يملأ عليه المكان ؛ فيؤنس وحشته ، ويخفف شقاءه ، ويذكي أشواقه ؛ فيمتزج مع صدى الأصوات ، يجمع من مفرداتها لحنا يتناسج مع ألحانها ، أو يعدل مساراتها ليكوّن لحنه الخاص . الطائف إحدى حواضر الحجاز التي تلاعبت بالأصوات المتسقة التي أجاد اتساقها أهلُها ، وصهروها مع أشواقهم وحماسهم ، وامتدوا بها مع حركة أجسادهم في تناغم مميز بين حركة الإيقاع ، والجسد ، وانتظام الجماعة . . .لتكون بعد ذلك ألوان : المجرور الحدري حيوما الرجز المجالسي القصيميات" أنشاد الملعبة " .. حافلة بمكتنزات دالة على حس حضاري راق ، ورمزية يعايش طقوسها ومسرحها هذا الإنسان ، وهو يوقد ناره ليهيئ الطار للعب ، وليكرم وافديه ؛ فيعايش مسرح اتقاد المشاعر ، ووجد الشوق ، وحماس المغامرة . . كأنه حين يكف عن مس حبال الشقاء ، وأصوات النداء استدناء أو زجرا وإبعادا ، وأصوات الاستغاثة ، والتداعي لبدء الغارات أو صدها . . ويأنس إلى لحظة اطمئنان في جلسة مجالسي أو مجرور يعيد في هذه اللحظات نسج تماسه ، وتناسجه مع عوالمها فيتخلق لديه تشكيل الوجد ، والحنين ، والشوق ،والحماس في أنغام وفعل جماعي إن في الأداء أو الاستماع يخلع به لحظة الشقاء ويحيلها إلى حضور مشهدي فيه المناجاة ، والرقة ، والشعور بنشوة الذات. وكأنه حين يفد على مستضيفيه من أبناء العمومة ، والمجاورين ، والأصهار ، ويحمل واجب الوفادة يريد أن يتسق مع جماعته في أداء جماعي ، ولذلك تسمع في كلمات التحفيز لهذا الأداء : صفكم يا ثقيف ، صفكم يا هذيل ، صفكم يا قريش . . وحين تضيق الدائرة بالحاضرين تجد كلمات مثل : صفكم يا نمور ، صفكم يا طويرق . ويستثمر هذا الأداء ليثبت الحضور ، ويعلي الشأن في مستوى رمزي يؤول بصليل السيوف ، وزمجرة البنادق ، إلى جو مسرحي يتبارى فيه الفتيان على أنغام الرجز الشجية في مهارات التلاعب بالجسد والنار . . ويظل القوم في حال سمر تمتزج فيه المنافسة باستدعاء الذاكرة ، والحكاية ، أو إقامة صفين من اللاعبين يحملون محاورات شعرائهم التي لا تكف عن استذكار التاريخ القريب ، والبعيد ، والتغني بالأمجاد ، وإثبات الفخر ، والتذكير بالأيام والثارات .. ويظل ذلك في إطار حضور مسرحي ، تظلله البهجة ، وكرم الضيافة ، مرتقيا عن الخصومة ولدد الخلاف . في مثل هذه الأجواء التي تتعامل مع الفن بهذا المستوى القريب من معاشها وعوالمها نشأ فناننا ، وضيف هذا المنتدى ، منتدى السالمي .. ومن الحوار مع أنغام العود ، وتدوين الألحان كان نشاطه الذي أبدع ألحانا تمازجت مع المجرور، والحدري ، والموال . . وتمازجت مع الإبداع الشعري ، والتاريخ الثقافي والوجداني للربا والروابي ، والأودية وأشواقها ؛ فكأنه تمازج مع أرواحها وامتزج بها لحنا وغناء . لاشك أن الغناء مستوى من مستويات الأدب ؛ ذلك أن الأدب كما نعلم نشاط لغوي خلاق ، يحيل مفردات اللغة وتراكيبها إلى وجود له ذهنيته الخاصة ، ودلالاته المتولدة من شعور الذات نحو عوالمها . . فيأتي الغناء أمامه النص الذي أضحى مفردة من مفردات العالم أمام الملحن ؛ فيخلع عليه من روحه ، ومن علاقات تمازجه مع عالمه ؛ فيقيم كلمات النص في تشكيل جديد له علاقاته في ظل المستوى الموسيقي والتنغيمي الذي آلت إليه وأصبحت تنداح فيه ؛ فإذا كان طاهر زمخشري بوصفه شاعرا ، قد بث مشاعره إلى وطنه قائلا : أهيم بروحي على الرابيه وعند المطاف وفي المروتين أهيم وعبر المدى معبد يعلق في بابه النيرين فإن غناء طارق عبد الحكيم لهذا النص قد أضفى عليه وجودا جديدا ، ومسارا مختلفا ؛ فالفنان أسبغ على النص فيوضا تمثلت في اللحن الذي يستقبله به قارئه ؛ فتأخذ لديه حركة النص مسارها المختلف ، الذي تمثل في اختيار الملحن لبعض الأبيات ، والحاجة إلى تناغم المتلقي مع الأغنية ، وهو يكرر أو يمتد باللحن ، عوضا عن الشعور بانتقال حال الشاعر وهو ينشئ النص إلى المتلقي ، وهو يردد الصوت مع طارق عبد الحكيم ، فكأن الكلام أصبح يتلبسه ، وأصبح المتلقي في حال تماهٍ مع النص عن طريق الأغنية .... ونستطيع أن نستجلي في اختيارات طارق عبد الحكيم الغنائية المظاهر التالية : استحضاراً لمكان . التناسخ مع الفلكلور . إيقاع الأغنية الجديدة .... استحضار المكان : بالتأمل في اختيارات طارق عبد الحكيم الغنائية يظهر المكان مجسدا في أنغام اللحن ، جاعلاً من المكان والإنسان صنوين ، يمتزجان ، ويتشكلان في ذات الفنان ، يطلقها لحنا وأغنية يظل صوتا مرددا ، فلئن بهر طارق عبد الحكيم ذلك المار الذي استحوذ على المكان والحضور ، الذي عبر عنه ذات مرة في حوار معه ب" البرق " فستظل تصدح من هذه الأغنية نسائم المكان : تأريخه ، والحنين إليه ، فيكون ذلك "البرق" من وادي ثقيف ، فتصبح الصفات الممنوحة لذلك الطاغي في حضوره ، الخالب الألباب ممتزجة مع المكان " وادي ثقيف " ويتجلى هنا البعد الإنساني الذي حرصت عليه الكلمات حين أضافت الوادي إلى الإنسان ، ذلك البعد الذي يتسق مع اللحن والأداء ، فيسري لطف الإيقاع على لطف ذلك الجاذب " لطيف جسمك لطيف " الذي مرّ وخلب الألباب ، ليؤول من كونه من وادي ثقيف إلى تفرد " ماشفت أنا لك وصيف "، بالإضافة إلى امتلاء صوت اللحن بفضاء الوادي عبر امتداد النغم . وحين يصدح طارق بأغنية " حبيبي في روابي شهار ووادي وج والمثناه " فإنك تشعر بالمكان ، واعتناق لأطرافه، حيث يحضر المكان بأغلى علاقة وصل ، وأشدها جذبا بعلاقة الحب ، وبشوق لقاء المحبوب التناسج مع الفلكلور : ويتمثل هذا في عدد من الأغاني التي لحنها أو أداها طارق عبد الحكيم من ألحان المجرور ، والموال ، والحدري ... بوصفها ألوانا شائعة في المنطقة الحجازية التناسج مع إيقاع الأغنية الحديثة : هيأ التواصل الغنائي عبر الجلسات الغنائية ، عبر الإذاعات العربية ، ورحلات الفنان ، للفنان أن يتواصل مع الجديد في عالم اللغة العربية ، وتكون له ألحانه الخاصة به على مستوى الثقافة العربية ، والثقافة الشعرية المحلية ، وثقافة الألوان الغنائية ، فنجده يلحن الأغنية المشهورة : تعلق قلبي طفلة عربية ... ويغني لمحمد الفهد العيسى : أسمر عبر ... ويصدح بأغنيات أخرى له إيقاعها الجديد ... هكذا نجد إبداع طارق عبد الحكيم حين جعل عالم اشتغاله الإبداع أحدث من الإبداع إبداعا آخر ، وجعل للنص الذي يختاره طريقة في التلقي والحضور عن النص حين كان في طريقة تشكيله الأولى على يد مبدعه . وبهذا نستطيع أن نقول إن طارق عبد الحكيم كوّن ذائقة جديدة في التلقي امتدت إلى أجيال من المتلقين لم يقتصر دورها على الغناء ، وإنما امتدت إلى النص المُغنى . * موجز للورقة التي قُدمت بمناسبة تكريم طارق عبدالحكيم