ذات صيف كنت متواجداً في الإسكندرية، وذات مساء صاخب بالطوفان البشري في الشوارع والمقاهي، والرصيف البحري كنت أقوم بمشاريعي التسكعية التي أجد فيها لذة التحرر من الالتزامات، والمواعيد، وبرمجة الزمن، وقوننة الهدف. والانطلاق العفوي إلى أمكنة، وفضاءات، وشخوص لم تتعرف عليها من قبل، أو تضعها في قائمة أجندتك اليومية. دخلت شارعاً مزدحماً بالبشر، والمحلات التجارية، والأبنية الباذخة، كان شارعاً تجارياً بامتياز يقصده الكثير من ساكني الإسكندرية، أو من السياح الذين يتوافدون إليها صيفاً، أو شتاءً . ورغم أنني لا أتعاطف كثيراً مع الأماكن المبرجزة والمترفة، إن لم أقل إن بي حالة نفور منها إلا أن الشارع شدني كثيراً، وأغراني بالجلوس في أحد مقاهيه، لأنني شاهدت يافطة تحمل اسم الشارع «شارع عبدالحميد الديب». فرحت كثيراً، امتلأت نشوة وسعادة. وريث الصعاليك، شاعر البؤس والشقاء، ذلك الإنسان الذي عاش حياة التشرد، والضياع، والفقر، والحرمان، والتهميش الاجتماعي له شارع باسمه في مدينة كبيرة ومهمة، وليس أي شارع بل شارع مميز، متميز، له مكانته في النشاط الاقتصادي والاجتماعي والسياحي في هذه المدينة الشهيرة. هذا تكريم، واعتراف. تكريمٌ لإنسان مبدع، خلاق، رافض، متصالح مع نفسه، ومع الحياة، ومع الناس، والظروف، واعترافٌ بشاعريته الحقيقية، وإبداعه الفني، وملامسته لقضايا الإنسان، والوطن، وتصوير الواقع الحياتي، والفكري، والإنساني بشكل مخلص، وتناولٌ فيه الرغبة في أن تكون الأمور أفضل، وأروع ، وتكون مسارات حياة الإنسان مسيّجة ومحصنة بأنماط تحفظ قيمته وكرامته كإنسان، وتفتح الآفاق أمامه ليكون فاعلاً، منتجاً، في تكافؤ للفرص. أقمت علاقة حميمية مع شارع «عبدالحميد الديب»، لأنني أحب هذا الشاعر، وأعشق صعلكته، وتمرده، ورفضه، وتعامله الواضح دون زيف مع الحياة. الآن، وأنا أتذكر، ولا أقارن أو أقارب بين المبدعين والخلاقين. وأسأل: - هل لدينا شارع في جدة، أو الرياض، أو الدمام، أو أي مدينة كبيرة من مدننا باسم المبدع «عبدالله عبدالرحمن جفري» أو «حمد الحجي» الشاعر البائس، أو «محمد حسين أصفهاني» مؤسس الطباعة في المنطقة الغربية، أو رجل من النخب الاقتصادية مثل: «عبدالله محمد الحقيل» أو «سليمان العليان»؟ الرموز النخبوية كثيرة، فهل كرّمناهم..؟؟ إنه سؤال.