أثارت محاضر التحقيق مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والتي أفرج عنها مؤخرا الأرشيف القومي الأمريكي، الكثير من الاهتمام لاسيما بين دارسي السياسة والباحثين المهتمين بشؤون الشرق الأوسط، إذ احتوت تلك التحقيقات ما يقارب العشرين استجوابا، وأكثر من خمس محادثات مطولة أجراها ضباط ال إف بي آي مع الرئيس السابق تناولت مجمل سياساته الداخلية والخارجية. طبعا، ليس في تلك الحوارات أية معلومات جديدة أومهمة، بل يمكن القول إن خطورة تلك الاستجوابات هي أنها تؤكد أن النظام البعثي العراقي طوال العقود الأربعة الماضية لم تكن لديه استراتيجيات واضحة أو رؤية إقليمية، حتى إن الإشاعات والحملات الإعلامية التي كان يشرف عليها الرئيس صدام حسين كانت تعبّر في الحقيقة عن تفكير النظام الطبيعي. خذ على سبيل المثال الادعاءات التاريخية بحق العراق في الأراضي الكويتية، وبالنفط الكويتي بالضرورة، أو اعتبار العراق المساعدات الكويتية أثناء الحرب العراقية - الإيرانية بوصفها حقوقا مستعادة وليست ديونا حقيقة واجبة السداد، أو فكرة أن الولاياتالمتحدة تآمرت مع دول الخليج لغزو وتدمير العراق، وغيرها الكثير. بالنسبة للمحلل السياسي، فإن فهم طبيعة النظام السياسي وسلوك النخبة السياسية هما أمران ضروريان في سبيل تفسير الحوادث والقرارات السياسية، يضاف إلى ذلك المصالح الشخصية والعامة – لاسيما الثروات والأموال - والدعاوى الاجتماعية والسياسية الرائجة، وأكثر من ذلك المزاج الشعبي العام في كل مرحلة تاريخية. لقد استطاع النظام البعثي في العراق أن يلعب على أكثر من دعوى سياسية واجتماعية، وأهم من ذلك على المزاج الشعبي، تبرير الحرب العراقية - الإيرانية، أو غزو الكويت كلاهما تم تسويقه بحجج شعبوية قائمة على شيطنة الجار، ودعوى أحقية أهل البلد بتلك الثروات والأراضي. هذه مسألة يجب التنبه لها، إذ أن تغيير نظام مهما كان ديكتاتوريا، أو زوال عهد بآخر لا يعني سقوط تلك الأفكار أو المفاهيم التي استغرق بناؤها – أو بالأحرى تشويهها - عقودا، فتغيير حاكم أو سقوط حزب لا يعني زوال الأفكار السياسية الحاكمة لاسيما منها المتعلق بالشأن الخارجي. مواقف العراق من دول الجوار بما فيها إيران وسورية ستظل محكومة بذات المخاوف والهواجس مهما تغيرت الحكومات مالم نشهد تجديدا حقيقيا في بنية النظام الاجتماعي والسياسي، والعكس صحيح، فالأنظمة المجاورة ستظل تفكر بالعراق بذات الطريقة القديمة مما يعزز في النهاية مخاوف وشكوك قادة العراق الجدد. مؤخراً، احتل السجال الكويتي - العراقي حيزا كبيرا في البلدين، واندفع نواب كويتيون وعراقيون إلى تجديد النعرات القطرية بين البلدين. يحدث كل ذلك دون أن تكون هناك حكومة بعثية في العراق، أو خلاف متجدد حول الحدود أو الحرب. طبعا، مسألة الديون كانت رئيسية ولكن الجميع يعرف أنها مرتبطة بالفصل السابع وهو أمر لا تملك لا الكويت ولا العراق التصرف فيه في الوقت الراهن، بل الغريب أنه على أرض الواقع كلا الطرفين مستفيد من الحصانة الممنوحة للأموال العراقية، وقضية التنازل عن الديون هي مسألة وقت ودبلوماسية وإعادة جدولة نسبية لما كان دينا أو تعويضا في السابق. ليس هنا مجال إعطاء رأي محدد فيما يجب أن تصير إليه قضية الديون على العراق، أو مستقبل الفصل السابع، ولكن المثير للانتباه هو أن ما تقوم به الأنظمة ليس بالضرورة مفروضا على الشعوب، بل إن المزاج الشعبي يلعب دورا كبيرا في قدرة الأنظمة على تسويق وتبرير خياراتها الداخلية والخارجية. استجوابات صدام هي نموذج كلاسيكي لهذا الوعي السياسي الزائف، والذي يستمد في الحقيقة مادته من المزاج الشعبي العام في المنطقة. أغلب إجابات الرئيس الذي ظل يحكم لثلاثة عقود لا تختلف بالضرورة عن إجابات أي رجل بسيط في الشارع العربي متأثر بالطروحات الأيدلوجية والدينية الشعبية، والتي تتميز بالاختزال والحنين القومي والعداء للأجنبي مستعمرا كان أو محايدا. هذه الرؤية المعجونة بالمؤامرة موجودة في كل إجابات الرئيس، فحزبه صعد إلى السلطة لتجنيب البلد من المؤامرة، والذين انقلب عليهم النظام البعثي كانوا متآمرين، والذين تم تصفيتهم من عناصر الحزب في طريق صدام للسلطة كانوا متآمرين، والدول الخليجية كانت متآمرة مع العدو الأمريكي، ومصر وسورية كانتا متآمرتين ضد العراق، وإيران متآمرة ، والذين ثاروا ضد النظام في 1991 متآمرون، والأكراد متآمرون، وهكذا. في النهاية ليس بوسع أي قارئ لهذه السجلات أن يستنتج أي معلومة سياسية ذات فائدة، فكل تحركات النظام وعرابه الرئيسي قائمة على المؤامرة، وتصل مرحلة التناقضات إلى أن المؤامرة مفتاح سري يفسر الأشياء بأثر رجعي، كمقولة صدام أن العراق قرر ضم الكويت كمحافظة عراقية لعلمه أن المؤامرة الأمريكية تتجه صوب غزو العراق فكان لابد من تأكيد حق العراق في الكويت وإشعار الجنود العراقيين بأنهم يدافعون عن جزء من أرضهم. حقيقة ليست المؤامرة آلية خاصة بحزب البعث أو بالرئيس الراحل، بل هي ممارسة سياسية يمارسها الجميع لاسيما الأحزاب والتيارات الدينية المسيّسة والتي تجد في المؤامرة بعدا عقديا ودينيا يصل إلى حد اتهام الطوائف والعرقيات في المنطقة بدور خفي ضد الأمة الرمز. هل هنا جديد في الخلاصة؟ ربما لا، ولكن من المثير أن تكون إجابات أحد أهم الرموز السياسية في المنطقة خلال الثلاثين عاما الماضية بسيطة وساذجة، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه كان يجيب عن تلك الأسئلة بعد تعهد الضباط الأمريكيين بسرية ما يقول، وأنه كان يحاول التجلي والاعتراف ببعض التقصير هنا وبعض الخطأ هناك. حقا محاولة فهم السياسة في منطقة كالشرق الأوسط لا موازين أو قواعد لها، والأخطر هو أن ما يقال كأقوال وإشاعات هو في الحقيقة ما يحدث.