أذكر أني سألت أحد مشايخي،ممن سبقنا إلى الدار الآخرة، أمطر الله على قبره شآبيب رحمته، عندما كان يحدثنا، في درس العقيدة، عن فرق»الضلال» من القدرية والمعتزلة والجهمية،أو من سماهم ب»المعطلة»، عن الأسباب الحقيقية التي دفعت تلك الفرق إلى أن «يعطلوا»صفات الباري تعالت ذاته، ما دام أنهم يعرفون أن ذلك»التعطيل» لن يضيف لهم إلا الخسران في الدنيا والبوار في الآخرة؟». كان «جواب» شيخي من جنس تلك «الأجوبة» التي تحمل في جوفها كل شيء إلا الإجابة!!. لقد قال لي،بعد أن ربَّع جلسته،:»لا شيء يا بُنيَّ غير ابتغاء الخسران والضلال، وتزيين الباطل بمتشابهات الحق،ثم استشهد بالآية الكريمة:(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا)». لم تقنع تلك الإجابة عقلاً بدأ لتوه (يماتل رباطه)،كما يقول المثل النجدي الدارج. عقلاً أدرك،حينها،أن ثمة محسوساً (مفكَّراً) فيه خلف ذلك (التجريد) العقدي الذي استصحبته الفرق الكلامية التي بُدِّعت وزندقت،بل وكُفِّرت من قبل التراث الذي كتبت له الغلبة فيما بعد. كما أدرك أيضاً أن ثمة دوافع موضوعية أرضية، اضطرت تلك الفرق ل»الكلام» في الصفات الإلهية، غير تلك الدوافع» التغريبية» التي أراد التيار المنتصر،آنذاك، إلصاقها بها،تقويضاً للأهداف الحقيقية التي توختها من وراء مشروعها الفكري/السياسي. تأجلت الإجابة الشافية عن ذلك السؤال الممض حتى يسر الله تعالى للعقل سياحة فكرية واسعة لا تهاب الصعب أن تركبه،مثلما لا تفتأ تُخضع حوادث الأيام ومواقف الأنام لطبائع العمران البشري لإعادة ربطها بدوافعها الاجتماعية المحضة. وما أن فعلت ذلك حتى وجدت أن لا دوافع تقع خلف تلك التجريدات»العقدية» غير دوافع المعارضة السياسية البحتة!. نعم كانت الدوافع السياسية ولا شيء غيرها، هي من حدد لكثير من أهل الملل والنحل مواقفهم»العقدية» التي توسلت المجرد وصولاً إلى المحسوس من المعارضة السياسية التي لم يكن من الممكن ممارستها،آنذاك، إلا بواسطة الدين. يذكر أبو محمد بن قتيبة الدينوري في كتابه:( الإمامة والسياسة) أن معبدَ بن خالد الجهني وعطاءَ بن يسار دخلا على الحسن البصري وهو يُحدِّث الناس في مسجده بالبصرة فقالا:» يا أبا سعيد،إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون الأموال، ويفعلون ويفعلون،ويقولون:إنما تجري أعمالنا بقدر الله». فتصدى الحسن لسؤالهما بقوله:»كذب أعداء الله». وهذا السؤال من هذين المُعارضيْن السياسيين وجوابه من إمام البصرة:الحسن، يُشير إلى الجذر السياسي الذي كان خلف قيام الفرق «الكلامية» بممارسة المعارضة السياسية في الدين. لقد افتتح الأمويون عصرهم بتدشين القول ب»الجبر» الذي يؤكد مضمونه أن الإنسان (مُجبْر) فيما يأتيه من أفعال،حسنها وقبيحها، وأنه ك»الريشة في مهب الريح». كان ذلك في خطبة تردد صداها في (صفين) بقول رأس الهرم الشامي:»وقد كان من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض، ولفَّت بيننا وبين أهل العراق،فنحن من الله بمنظر،وقد قال الله سبحانه وتعالى: ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد». ثم أكدوا ذلك المعيار(الجبري) في خضم الاستعدادات لتولية يزيد بن معاوية ولاية العهد، عندما أكدوا أن»أمر يزيد قضاء وقدر، وليس للعباد الخيرة من أمرهم». وما أن تولى يزيد الخلافة حتى افتتحها بخطبة قال فيها:» الحمد لله الذي ما شاء صنع، ومن شاء أعطى، ومن شاء منع، ومن شاء خفض، ومن شاء رفع». وسار الخلفاء الأمويون، من بعد ذلك،على اتخاذ أيديولوجية الجبر قاعدة»شرعية» لحكمهم، فهذا هشام بن عبد الملك يفتتح عهده بقوله:» الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام،( يقصد توليه الخلافة)».أما يزيد بن عبد الملك فقد أحضر سبعين شيخاً يشهدون له أن ليس على الخليفة من حساب ولا عقاب،لأنه مجبور على تولي الخلافة من جهة، ومن ثم فهو مجبور على ما سيقترفه من أعمال في سبيلها من جهة أخرى!. كان هدف الأمويين من وراء إشاعة القول ب»الجبر»،التي أعادوا بها القيم الكسروية جذعة في حياة المسلمين،التنصلَ من مسؤوليتهم تجاه ما أتوه من قبائح، سواءً منها إحراقهم الكعبة المشرفة بالقطران المحترق،أو استباحتهم مدينة الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه وعليه، أو انتزاؤهم على الخلافة وسومهم الناس سوء العذاب. فكلها وفقاً للقول ب»الجبر» أعمال لا حول لهم فيها ولا قوة، وبالتالي فهم غير مسؤولين عنها، لا في الدنيا، وهي المحطة التي ابتغتها النظرية الجبريةً، ولا في الآخرة. كان من الطبيعي أن تثير تلك المقولة الجبرية حفيظة الآخرين،لا سيما منهم من اكتوى بنار الجبر الأموي وهم كُثُر، والذين تصدوا لتفنيدها من داخل الدين الإسلامي نفسه. فكان ذلك إيذانا بإرهاصات تشكل الفرقة المعروفة ب»القدرية» نسبة إلى قدرة الإنسان نفسه،وليس إلى نفي القضاء والقدر، كما صورته لنا الأدبيات التقليدية التي أعجزت شيخي عن إجابة سؤالي بما يشفي غليلي!. قام»الكلام»القدري على أصل مؤداه: أن الإنسان حر مختار فيما يأتي ويذر، وبالتالي فهو مجازى على أفعاله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. ولأنه لا بد من محسوس مسكوت عنه وراء كل مجرد، فقد كان المسكوت عنه في «كلام»القدرية هم الأمويون الذين ادَّعوا أنهم ليسوا مسؤولين عن أعمالهم.لقد كان مضمون»القدر»الذي نادت به القدرية يؤكد أن الإنسان مسؤول عن أفعاله:( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، وبالتالي فالأمويون مسؤولون عن أعمالهم مسؤولية دينية وأخلاقية. وهي أيديولوجية»كلامية» تطورت،فيما بعد،لنشوء ما بات يعرف بنظرية»خلق الإنسان لأفعاله» على أيدي المعتزلة، ورثة الحركة التنويرية فيما بعد. كانت شخصيات من قبيل:معبد بن خالد الجهني وغيلان الدمشقي وعطاء بن يسار،يضاف إليهم الحسن البصري، من أوائل الشخصيات التي نادت بفكرة»القدر»،التي يرمز معناها، كما قدمنا،إلى قدرة الإنسان واختياره على إتيان ما يريد، والامتناع عن فعل ما لا يريد، وبالتالي ثبوت مسؤوليته الأخلاقية والدينية عن نتائجها. وبغير ذلك، لا يكون للثواب والعقاب، وهما عماد الرسالات النبوية، أي معنى،إذ لا يمكن أن يحاسب الإنسان على أعمال وأفعال هو مجبورعليها. من الطبيعي،( في ظل ممارسة السياسة بالدين)، أن يتصدى الحزب الأموي لمضمون الفكرة القدرية بمحاولة نقضها وتشويهها وأصحابها، ولذلك، فقد سوقها الحزب على أنها فكرة تقول ب»نفي» أي وجود لقضاء الله وقدره، أو كما قالوا عنهم إنهم يقولون:»لا قَدَر وأن الأمر أُنُف». وتدعيماً للمشروع الأموي المناهض للمشروع القدري، فقد روى لهم أنصارهم «الآثار» التي تحذر من القدرية باعتبارهم» مجوس هذه الأمة!». مع أن الغرض السياسي الأموي المتقنع بقناع التصدي «العقدي» للقدرية، كان إفساح المجال للخلفاء الأمويين وأنصارهم للتنصل من أية مسؤولية دينية أو أخلاقية تجاه ما اقترفته وستقترفه أيديهم من القبائح. لكن مشايخنا كانوا يوهموننا،من وحي إيهامهم هم أيضاً من قبل تراث كتب بأيد سياسية منتصرة، أن التصدي ل»القدرية» كان نصرة لله ولدينه!. من جهة أخرى، فقد ظهرت، وبالتزامن مع ظهور مقولة»الجبر»،مقولة مساندة لها،هي مقولة»الإرجاء». فمن وحي التنصل من المسؤولية الأخلاقية الدنيوية، اعتماداً على»جبرية» الأعمال والأفعال، لم يبق إلا المسؤولية الأخروية، ولأن هذه في علم الغيب، فقد نادت المقولة الإرجائية ب»إرجاء» الحكم على الأمويين إلى يوم القيامة. والنتيجة(السياسية) المترتبة على ذلك هي: عدم مشروعية مساءلتهم أو الثورة عليهم أو تخطئتهم فيما عملوه،طالما أن الله تعالى سيتولى محاسبتهم بنفسه يوم القيامة!. هنا تكون»القدرية» قد قامت، كمشروع فكري، ضداً على الجبر والإرجاء معاً. وقد تمثلت الخلفية السياسية التي كانت تؤطرها بإعادة الاعتبار لقيم العدل والشورى و»حقوق الإنسان»، بعد أن شرعنت السياسة الأموية آنذاك للظلم والاستبداد وبخس الناس حقوقهم بواسطة التنظير لمقولة»الجبر»وشد أزرها بمقولة»الإرجاء». (يتبع)