لم يكن الممثل الأمريكي الراحل ديفيد كارادين (الذي عثر على جثته في فندق في بانكوك مطلع هذا الشهر) من النجوم الذين تركوا بصمة وأثراً كبيراً ما عدا، ربما، شهرته الجماهيرية التي نتجت عن دوره في المسلسل التلفزيوني (كونغ فو-Kung Fu) عام 1972. كان بطلاً لعدد كبير من الأفلام سخيفة إلا أنه وعلى الرغم من ذلك كانت له بدايات هامة كانت ستجعل منه ممثلاً ذا شأن، وهذا هو الأمر الذي يجهله الكثير من متابعي أفلامه. فهذا الممثل الذي ولد في هوليوود في ولاية كاليفورنيا عام 1936 من عائلة فنية احترفت التمثيل في المسرح والسينما والتلفزيون، كان قد بدأ ممثلاً في مسارح برودواي الاستعراضية، وأظهر ميلاً إلى احتراف الموسيقى إلى جانب التمثيل، واشتغل في التلفزيون طوال عقد الستينات، وفي عام 1972 اختاره المخرج مارتن سكورسيزي لبطولة فيلمه الروائي الثاني (شاحنة بيرثا- Boxcar Bertha) ويحكي قصة امرأة، تلعب دورها الممثلة باربرا هيرشي، تتعرف على قائد عمالي، يقوم بدوره ديفيد كارادين، في ولاية أركنسو أثناء الكساد الاقتصادي الذي اجتاح أمريكا مطلع الثلاثينات، ومحاولتهما لمكافحة الفساد الذي يقود الاثنين في النهاية إلى الجريمة. في عام 76 تصدى لدور البطولة في فيلم (باتجاه المجد- Bound for Glory) للمخرج المبدع هال آشبي، صاحب الروائع الشهيرة (هارولد ومود) و(التفصيل الأخير- The Last Detail) و(أن تكون هناك- Being There)، ويسرد الفيلم قصة المغني الأمريكي وودي غوثري التي كانت موسيقاه وأغانيه في الثلاثينات تعبر عن مآسي العمال في تكساس في تلك الفترة. وقد وصلت مسيرته الفنية إلى ذروتها عندما اختاره المخرج الأسطوري إنغمار بيرغمان ليلعب دور البطولة أمام ممثلته الأثيرة ليف أولمن في الفيلم الدرامي المثير (بيضة الثعبان- The Serpent's Egg) عام ,1977 وهو فيلم عن المحرقة والتطهير العرقي في فترة صعود النازية، ويحكي قصة رجل وأرملة أخيه وما يتعرضان له من تعذيب، واستخدامهما كفأريّ تجارب طبية وكيميائية من قبل النازيين. هذه التجربة التي قد تكون عادية، أو لنقل هي الأسوأ فنياً في تاريخي بيرغمان وليف أولمان، نجدها بالنسبة إلى كارادين تعد من الأبرز والأهم فنياً طوال مسيرته. وما زلنا في السبعينات التي شهدت تجليات ديفيد كارادين الذي ظهر في أدوار صغيرة في بعض الأفلام المهمة مثل رائعة سكورسيزي (شوارع دنيئة- Mean Streets) عام 73 و(الوداع الطويل- The Long Goodbye) في نفس العام للمخرج الراحل الكبير روبرت ألتمان. وقد خاض تجربة الإخراج مرتين، الأولى عام 75 في فيلم (You and Me) والثانية عام 83 وفيلم ( Americana)، وهو دراما عن طبيب بيطري عسكري تم تسريحه من فيتنام والتغيرات التي طرأت بعد عودته إلى قريته الصغيرة في كانساس. وبعد هذه التجربة، عاد إلى التلفزيون وعاد إلى مسلسل (كونغ فو) الذي أطلق شهرته في البدايات، ومثّل في أكثر من مائة فيلم تتشابه جميعها بمستواها الرديء للغاية قبل أن تسنح له فرصة العمر ليعود مجدداً في دور سيخلده طويلاً في ذاكرة الجمهور. هذا الدور الذهبي أسنده له غريب الأطوار المخرج كوينتن ترانتينو، صاحب الشغف الكبير في إحياء الممثلين الموتى والمنسيين، في فيلم (اقتل بيل – Kill Bill) عام 2003 والذي أدى فيه كارادين شخصية بيل، زعيم العصابة التي تطارده وتبحث عنه أوما ثورمان لكي تنتقم منه، فترشح عنه لجائزة الغولدن غلوب كأفضل ممثل ثانوي، وعاد من خلاله إلى الأضواء مجدداً، ولكن ماذا بعد ذلك؟. عاد من جديد إلى لعب ذات الأدوار السخيفة في أفلام رديئة المستوى طبعت تاريخه وأدمن عليها، كإدمانه على الكحول والمخدرات في فترة من فترات حياته، وكانت كفيلة بمحوه ونسيانه كممثل كان بطلاً في أفلام وقف خلفها مخرجين كبار أمثال بيرغمان وسكورسيزي.