من جامع برزان التاريخي في وسط حائل، خرجت جحافل الناس تشيع جنازة عبدالكريم الزايد الفهد يوم الأثنين الماضي 15 يونيو 2009م، ليوارى الثرى في مقبرة صديان، طاويًا بذلك آخر صفحات حياة مليئة بعطاء مثمر استمر زهاء سبعين عامًا. وحتى آخر أيامه، كان منهمكًا بالعمل منذ الصباح الباكر، منجزًا أعماله اليومية بما فيها الزيارات والمكالمات العائلية، ومؤديًا واجبه اليومي الذي فرضه على نفسه في الاطمئنان على أحوال أسرته وأقاربه ومعارفه أينما كانوا. لم يثقل على أحد قط في حياته ولا أثناء وفاته، فلم يكابد عناء المرض ولم يصارع نزعات الموت طويلا. جاءه الحِمام رحيمًا فأغمض جفنيه على حين غرّة، وتركه يودّع الدنيا بهدوء وسكينة. وهاهي الأرض تطويه بعد أن طواها حافيًا ومنتعلا بقلب شجاع وروح صبورة وعزيمة لاتُفلّ. مات كما يموت الأبطال رجلا شهمًا نبيلا: ماعرفت نفسه غير الكرم، وما مسّت يده إلا الرزق الحلال، وما ران على قلبه سوى الحب والتفاؤل. تعلّم مع أوائل من تعلّم في قريته التي نشأ فيها وهي الغزالة التي صارت اليوم محافظة. وكان من أوائل المعلمين في مدرسة جعفر الطيار التي ضمّت كوكبة من المعلمين الأفذاذ الذين امتازوا بعلمهم وبإخلاصهم في العمل، وكنت ممن أسعدهم الحظ أن تلقيت تعليمي في تلك المدرسة. ولا تزال ذاكرتي عامرة بأؤلئك الأساتذة الأفاضل وبالمواقف التعليمية والتربوية التي مرت علينا، وأشعر بفضلهم يطوّق كياني في جميع مراحل التعليم التالية. درّسنا في الصف الرابع الابتدائي، وكنت أحتار في البداية كيف أناديه: خالي أم الأستاذ؟، لقد كان الخال والمعلم معًا وأكثر. جمع بين العطف والرحمة، فضمّنا بأبوّة حانية قلّ مثيلها. وجمع إلى جانب ذلك الصرامة والحزم؛ فهو لا يتهاون في مسائل التعليم إطلاقًا ولا يرضى بإحراز الحد الأدنى، بل يضع أعلى حد للأمل في نفسه وفي طلابه وأبنائه وأحبابه. كما لا يرضى بما يُسيء للكرامة الإنسانية مهما كانت الأسباب ومهما تغيرت الظروف لأنه مؤمن إيمانًا لاينازعه شك أن المرء وُلد حرًا ويجب أن يعيش حرًا وعليه أن يموت حرًا كريمًا. يسعى دائمًا في الخير والإصلاح، ولم يمشِ خطوة قط فيما يمكن أن يجلب ضررًا لأحد حتى لو كان الضرر مجرد احتمال بعيد. يكره النميمة والوشاية والغيبة والحكي في أعراض الناس، وينكرها علنًا أمام الشخص أو أمام المجموعة لأنه يريد أن يُسجّل موقفه من تصرّف لا ينسجم مع قيمه الأخلاقية التي تربّى عليها وربّى غيره على الإيمان بها والاعتزاز بمضامينها. يده مبسوطة لاتقدّم إلا الجزيل، ولايمكن لها أن تمد اليسير. وقد عُرف فيه أنه إذا قدّم شيئًا قدّمه فوق المتوقع وأكثر من المطلوب. ينطبق هذا على عطائه المادي الذي تجود به يدٌ مليئة بالفضل، وعلى كرمه المعنوي في الوجاهة وفي الشفاعة وفي مختلف أوجه العلاقات التي تتطلب حضوره المعنوي. لا يتكلم كثيرًا في المجالس، ولكنه إذا تكلّم أسمع؛ صوته جهوري له نغمة رخيمة ذات وقع مؤثر في المسامع، تعرفه من صوته قبل أن تراه، وتشعر بقوته وشجاعته. واضح ومباشر في حديثه، لايعرف اللف ولا الدوران، وليس من طبعه أن يقول ما لايفعل، ولا من سجيته أن يقول شيئًا ويقصد غيره، لا يجامل في الحق ولايعرف النفاق. يختار كلماته بعناية ويتحمّل مسؤولية ما يتفوّه به، ولا يمكن أن يتنصّل عمّا وعد به حتى لو كلّفه ذلك المشاق كلها. بنى لنفسه المجد في قومه بما ناله من سُمعة عظيمة ورثها عن والده رحمه الله الذي يعرفه القاصي والداني في بلاد الجبلين. أما هو فكان الناس يأتونه في السابق طامحين في مساعدته لكي يكتب لهم الرسائل والمعاريض والخطابات؛ فقد كان خطّه (أي كتابته) لاتخيب؛ وصاروا يأتونه فيما بعد طامحين في مشورته والأخذ برأيه والاعتماد على نصيحته فيما يواجههم في الحياة من قضايا وصعوبات. لايدخل نفسه في خصوصيات الآخرين، ولكن إذا طلب منه أحد العون وقف معه حتى النهاية، فلا يتهرب من مواجهة الصعاب بالأعذار. إذا سار في وجاهة نحو شخص أو جماعة ظفر بإنجاحها، ولذلك أسباب كثيرة؛ فهو لايقبل أن يسير فيما فيه ظلم أو عدوان أو انتهاك لحق أو جور على أحد، ولايقبل السعي في قضايا فيها ما يسيء للخلق الكريم. ولهذا، فهو إذا قرر أن يسير في شفاعة جهّز نفسه لها واختار صحبته وانتقى عباراته وراح يواجه بها. ذخيرته اللغة، وهي سلاحه الذي لا يخيب، وقد عرفه الناس أنه صادق لايمكن أن يكذب حتى لو أدى ذلك إلى حتفه، إضافة إلى أنه "إذا قال قولاً وفى". وقد وفّقه الله بلغةٍ قويّة ذات تأثير هائل على المستمع الذي يجدها صحيحة وواقعية مربوطة بالأفعال. ولا أذكر أبدًا أنه فشل في وجاهة سار بها في حياته. رجل أحب العمل بنشاط فأحبته الحياة ومن فيها، يصحو باكرًا كل يوم، يكدح منذ طفولته في مزرعة والده رحمه الله، ثم في أعماله التجارية. وحينما انتقل إلى حائل استمر في العمل حتى تقاعد دون أن يعرف جسمه الراحة أو يدبّ في نفسه الملل. يدفعه لذلك إيمانه بقيمة العمل في الحياة دون أن يقيم أي اعتبار للمال بحد ذاته وإنما بما يساعد على التكافل والتعاون بين الناس. أحبه الناس وبادلوه حبه لهم بحب ووفاء، كان يشاركهم مختلف أوجه التكافل الاجتماعي فيجيب الدعوة ويسعد بأفراحهم ويستاء لأحزانهم؛ ولهذا تجد صدى علاقاته الإيجابية من خلال الحضور الكثيف لأي مناسبة يقيمها في حياته. وبعد أن دوى خبر وفاته في حائل حزن له الجميع وحضرت جماعات لا تعد للصلاة عليه وللمشاركة في دفنه وتقديم العزاء لعائلته. ومن المحاسن أنه أورث هذه السمات النبيلة لأبنائه وبناته من بعده، ممّن سيحفظون ذكراه ويسيرون على نهجه في الكرم وحسن الأخلاق. وإنه يؤسف هذه الزاوية أنه لن يقرأها اليوم، بعد أن كان من المحتفين بها منذ صدورها، وكم سعد كاتبها بملاحظاته ومقترحاته. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الجنة وخلّف في ذريته الخير والمجد والصلاح.