في رأس السنة قبل الماضي، أي عندما بلغت الأزمة السياسية في لبنان ذروتها من خلال الفراغ الرئاسي، كان لافتاً أن أحداً من الذين سألتهم الروبرتاجات التلفزيونية التي تجرى عادة قبل العيد بأيام عن أحلامهم في السنة الجديدة، لم يتحدث عن حلم خاص، كشراء بيت أو سيارة أو خطوبة أو حتى اقتناء زوج أحذية فاخرة، بل تحدّث الجميع عن أمنية وحيدة: أن يتصالح السياسيون. أذكر هذه الحادثة لا لأتكلم على السياسة، بل لأتكلم على الشعر. فكما حرمت الأزمة السياسية المفتعلة الناس حقهم في بقايا هذه المساحة الشخصية للأمنيات الصغيرة والأحلام الصغيرة، حرمت أزمة الشعر المفتعلة الكثير منا التفكير بمساحته الشخصية أيضاً. بالفعل ثمة وهم - وقعنا إلى حين تحت سطوته - يفيد بأن الشعر العربي يخوض معركة وجودية، والأنكى أن بعضنا قرر خوضها على طريقة الأنظمة العربية نفسها، أي تحت شعار: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. أتحدث عن "معركة" لكنها في الحقيقة "معارك"، أو هو الوهم الذي تفرَّع وتشعَّب، فقرر كل منا ملاقاته في المكان الذي يعتقد أنه ينتظره فيه، فمعركة في مصر على "شرعية" قصيدة النثر، ومعركة في لبنان على "ملكية" قصيدة النثر، وأخرى في المغرب على "مناصب" الشعر، وغيرها في العراق.. إلخ. والأخطر في "معارك" من هذا النوع هو أن نرجسية الشعر تراجعت لتتقدم مكانها نرجسية الشعراء. نرجسية ذواتهم لا نرجسية قصائدهم. أقول: الشعراء، وأقصد بعضهم. أقول: الشعراء، وأقصد هؤلاء الذين شابهوا السياسيين في كونهم سبب حرماننا من مساحتنا الشعرية الشخصية. وعوض أن تتقدم (في معركة كهذه تزعم أن الشعر - وليس سوى الشعر - هدفها) نرجسية الشعر على نرجسية الشعراء، نرى الأمر بالمقلوب. ناهيك بمحاولة هذه النرجسية لدى البعض المماهاة بينها وبين نرجسية الشعر على الطريقة السياسية تماماً: "أنا الدولة والدولة أنا"كهذه الجملة التي منذ أن قالها الملك الفرنسي لويس الرابع عشر (1638 - 1715) باتت شعار الاستبداد السياسي حتى يومنا هذا. "أنا الشعر والشعر أنا" جملة تصلح عنواناً لمعظم المؤتمرات الشعرية العربية البائسة التي حكمتها عقلية الاستبداد والإلغاء السياسيين بدعاوى معارك زائفة لا تملك وجهة نقدية قدر ما تملك مطامع شخصية لا تبدأ بالجوائز ولا تنتهي بتذاكر السفر ووجبات الفطور والغذاء والعشاء. بالطبع، الفارق بين نرجسية الشعر ونرجسية الشعراء ليس فارقاً مختلفاً أو وهمياً، كما أنه لا يكون جسيماً في حال نرجسية الشعر في مأمن. لكن ماذا نعفل في حال شعراء يعيشون حالة بطالة شعرية وحالة ازدهار سلطة في آن واحد؟ ما نفعل بشعراء جَفُّوا منذ زمن وما زالوا "الموتمنين" على حيبنا؟ ماذا نفعل بشعراء أخرجتهم إلى الضوء علاقاتهم الشخصية وانحناءاتهم واستزلامهم لأصحاب النفوذ فراحوا يحاكون - وهم الذين لا يملكون أدنى الموهبة - النرجسية المستحقة لشاعر العربية المُلهَم أبا الطيب المتنبي في قوله: "أمط عنك تشبيهي بما وكأنما فما أحدٌ فوقي ولا أحد مثلي"؟ وعوض أن تكون أزمة الشعر العربي، حالها حال مثيلاتها في العالم، أزمة مكانة وقيمة ودور ونقد، اقتصرت عندنا على محسوبيات ومؤتمرات ومهرجانات شخصية وشخصية وشخصية على التوالي. ف "شاعر" عوّض غياب الموهبة بحضور السلطة، و"شاعرة" استبدلت قلم الحبر بقلم الحُمرة. وخَوْض معركة الكرسي لدينا أهم من خوض معركة الحرية. وخوض معركة منصب في جائزة أهم من خوض معركة النزاهة والشفافية بل ومن معركة الشعر كله. "لا تُستساغ النرجسية إلا في ثمار الشعراء" قالها أنسي الحاج في "خواتمه"، وبعض الشعراء على ما يبدو قرأها: ".. في ذوات الشعراء". بالمناسبة صاحب مقولة "أنا الدولة والدولة أنا" هو أول من لبس الباروكة لأنه أصلع. على الأٍقل فيأخذ شعراؤنا "الصلعان" بهذه المأثرة.