هي مرحلة تأديبية قضيتها بين جدر أربعة وقضبان فولاذية لا تعي للرأفة معنى ولا ترقى وتحنو على مدامعي الهاطلة.. فليلي أفكار ومساجلة، وعواطفي كرُّ وفر، وظنوني شك ويقين، ونفسي ضمور وأحزان وكآبة، وآمالي حبيسة الوجدان، ويومي عابس يكاد أن لا ينقضي، ومساءي وحدة وانكسار وملل يسكن محيطي.. لا طارق يكترث لسكرات الموت التي تقضيني في اليوم مئة مرة، ولا سائل عني يطمئن على حالي، ويجبر بالحنان كسري، ويبدد قسوة لحظاتي المتناحرة، وينفض عن صدري هموماً متكالبة تغصغص أنفاسي.. فأنا سجين، والعقوبة تطهرني وتزكيني بإذن الله، لكن الثمن باهظ وبغيض يقتل آمال النفس الواسعة ويهدم ما كان ماثلاً بين جنبيها من طموحات وليدة وأمنيات مخضرة، ويخبو مع اليأس كل فتيل بالحياة نابض.. تضاربت كعواصف البيداء الحارقة وأمواج المحيط الهادرة ورغباتي اليانعة وهواجس فكري الشاردة، وبقيت مذبذب الكيان مجرد الوجود، أحسب الدقائق والأىام والأشهر، ويريبني منظر الشمس الآفلة ويبعث بقلبي الضيق والضجر، وأتهيأ لليل صامت طويل عسير لا يمل انتظاري واحترامي ليأسي وأحزاني، ولا يرحم دمعي فأتقوقع من نفسي إلى عمق نفسي، وأمل القيود والمرارة والإحن وكأن ثمة ما يعتصر نبضي فتفيض روحي من غير إفاضة يدنو بها حيني فأموت وأتخلص من كدري وضيقي وشتات بعضي المتألمة.. أنا سجين وجد نفسه بما قارف من خطأ في معقل لا نوافذ له ولا أبواب، كالفضاء المنقطع تماماً لا صوت ولا طيور ولا بشر، مكبل المقدرة والحيلة فأتوه رغماً عن أنفي في رحابة هذا الفضاء بلا هدى ولا مقصد ولا سبيل للخلاص، غير الرضا والإذعان والتسليم المضني لرجاءات القلب المرتاب.. ولم أتذوق السعادة ولو لبرهات ألمح فيها عين الشمس بتفاؤل وأمل، بل إن ما ينتظرني أشد فتكاً على النفس من قعقعة الرياح الثائرة، إذ لا مجتمع يرحم ولا يتحلى بالسماح والمغفرة والنسيان، فما من نظرة إلا وأرى فيها الشك، وما من سلوك أبديه إلا ويبعث في الآخرين الخوف والنفرة، ولا من مهنة إلا ويطردني أصحابها بطريقة مهذبة لبقة ويعتذرون عن الإصغاء لبوحي واحتوائي.. وأخشى ما أخشاه.. أن تؤدي بي ظلمة الحال وضنك العيش وذل الحاجة والسؤال إلى التبلد فتعتاد نفسي الإخفاقات والهوان وقسوة الظلم ونبذ المجتمع، فأسلك سبل المغرضين الحاقدين وانتقم من نفسي ومجتمعي وأمزق آمالي ورجاءاتي وأفراحي وتطلعاتي المستقبلية، وأضرب بالمبادئ والقيم ومزايا النفس الطيبة عرض الحائط وأودع العالم البئيس بطريقة لا تليق بالطيبين فيه.