أثارتني كثيرا مناقشات مجلس الشورى لتقرير ديوان المراقبة العامة للعام 1426-1427ه حيث أبدى أعضاء المجلس استغرابهم من استمرارية التجاوزات والخلل المالي الذي يحدث في الأجهزة الحكومية وما يجري من صرف مبالغ ضخمة من اعتماداتها بغير وجه حق أو في غير الأغراض التي خصصت لها والتي قدرت بنحو 109 مليارات ريال تمثل مبالغ متراكمة منذ سنوات لم يتم استرجاعها منها 350 مليون ريال تم صرفها خلال عام واحد!! وشدني كثيرا وآلمني أكثر تقرير ديوان المراقبة العامة عن العام المالي الماضي الذي كشف عن وجود 44 مليار ريال كقروض مستحقة السداد لم يتم تحصيلها لمصلحة صناديق الإقراض التنموي الحكومية بزيادة ملياري ريال عن العام الذي يسبقه!! وتسابقت إلى الذهن تلك التصورات التي تزامنت مع بدء الدولة بإقراض المواطنين من خلال صندوق التنمية العقاري فعلى الرغم من أن تلك القروض كانت من النوع الحسن (جدا) حيث يدفع المواطن بعد خمسة وعشرين عاما أقل مما اقترضه إلا أن شريحة كبيرة من المجتمع كانت ترى أن تلك القروض (ديون معدومة) لن تطلبها الدولة من المواطنين الأمر الذي جعل الكثيرين منهم يمتنعون عن السداد في الأوقات المحددة كما فتحت شهيتهم أيضا للاقتراض بغض النظر عن الحاجة بل ربما اقترض بعضهم ليبني منزلا بينما تزوج بالمبلغ أو سافر أو اشترى سيارة!! وشدني كثيرا أن تلك الثقافة (المهترئة) في النظر إلى القروض قد امتدت أيضا للتساهل والتهاون في موضوع العهد والسلف الحكومية حيث يشير التقرير إلى وجود 25 مليار ريال من أرصدة العُهد لدى جهات حكومية لم يتم تسديدها!! مما يجعلنا نطالب مع الديوان في وضع حد عاجل وفاصل لمثل هذا الموضوع (الذي لا يمكن التغاضي عنه أو التهاون في وضع حد له).. ولم يتوقف الديوان في رصد مخالفات القطاع الحكومي فقد أورد عددا من الملاحظات أبرزها تمثل في استمرار تضخم أرصدة العُهد حيث أن كثيرا من الأجهزة الحكومية لا تزال مستمرة في صرف تلك العُهد مع عدم متابعة تسديدها في المواعيد المقررة مما يحرم الخزانة العامة للدولة من أموال كبيرة كان يمكن توجيهها لمشاريع تنموية أخرى!! وحذر الديوان أيضا من الآثار السلبية للملاحظات العامة على أداء الجهات الحكومية والتي حصرها في تدني مستوى بعض الخدمات وانعدامها في بعض المحافظات والقرى والأحياء وسرعة استهلاك ممتلكات الدولة وانقضاء أعمارها التشغيلية قبل أوانها بسبب إساءة الاستخدام وكذلك تأخر الحصول على القروض التنموية لفترات طويلة وعدم تنفيذ كثير من المشاريع الحيوية في المواعيد المقررة أو تأجيل تنفيذها وتعطيل الاستفادة من بعض الإيرادات الذاتية في تطوير المرافق العامة وتحسين الأداء. ولأن تقديم المشكلة دون مقترحات لعلاجها يعد من سفه القول في كثير من الأحيان فقد قدم الديوان مشكورا من خلال تقريره السنوي عشر طرق لمعالجة القصور الحاصل يتمثل أبرزها في أهمية تفعيل مبدأ المساءلة وتطبيقه بحزم في إطار خطة الإصلاح الشامل والمتابعة الجادة والمستمرة لتنفيذ عقود المشاريع والخدمات ضمن المدد المحددة وتطبيق نصوصها بحزم في حالة التقصير أو التأخر وإلزام الأجهزة المعنية بحسن استغلال ممتلكاتها ومواردها الذاتية مطالبا بمساءلتها عند مناقشة تقاريرها السنوية عما تم إنجازه من خططها ومشاريعها وما تم اتخاذه بشأن ملاحظات الديوان على أدائها ومن وسائل المعالجة التي يراها الديوان أيضا التأكيد على الأجهزة المشمولة بالرقابة بوجوب التقيد بالأنظمة والتعليمات المالية النافذة ومساءلة المقصرين وتوخي الموضوعية والدقة في تقدير الاعتمادات وفق الاحتياج وكذلك ترسيخ مفهوم الانضباط المالي والإداري وتوفير مقومات الرقابة الذاتية والحماية الوقائية للمال العام وترشيد استخداماته وتطوير وتفعيل دور أجهزة الإشراف الحكومي ودعمها بالكوادر المؤهلة والحرص على تحديث الأنظمة والتعليمات المالية لمواكبة المستجدات والحد من المخالفات والاستثناءات ورفع كفاءة الأداء والتوسع في استخدام مفاهيم الهندسة القيمية في المشاريع الحكومية وترشيد شراء المواد وقطع الغيار منعا لتكدسها وعدم الاستفادة منها نتيجة التطور العلمي والتقني. ويرى ديوان المراقبة العامة في تقويمه لما تكشف له من ملاحظات ومخالفات أن من أهم أسباب القصور عدم محاسبة المخالفين والمقصرين ومساءلتهم وفق الأنظمة!! ووجود ثغرات في بعض الأنظمة والتعليمات تسهل استغلالها في ارتكاب المخالفات إضافة إلى انعدام أو ضعف الرقابة الداخلية وعدم تفعيل دور إدارات المتابعة وضعف تدريب وتأهيل العاملين وتدني مستوى أدائهم وكذلك عدم الدقة في تحديد الاحتياجات الفعلية من الاعتمادات المالية والمواد وعدم كفاية المبالغ المعتمدة في الميزانية لتوفير الخدمات التي تقدمها بعض الجهات للمجتمع، إضافة إلى تهاون بعض الأجهزة في متابعة تنفيذ عقود مشاريعها وتطبيق أحكامها بدقة. وتقرير ديوان المراقبة العامة الذي شخص بشفافية متناهية مواطن الخلل (وهي كبيرة جدا!!) وأورد مقترحات المعالجة (وهي غير تعجيزية مطلقا!!) يجعلنا نطالب وبشدة لمزيد من الحزم وكثير من المتابعة و(القسوة أحيانا) لحماية مكتسباتنا الوطنية والحفاظ على خير الوطن للوطن وساكنيه.. كما أن ذلك التقرير الذي يمكن وصفه ب(الصارخ) يجعلنا نتساءل عن إمكانية مراجعة الأنظمة والقوانين التي تحكم تلك الأمور المالية بالذات وربما احتجنا إلى تعديل أو تبديل في تلك الأنظمة لتتناسب مع الوضع الحالي أو لتكون أكثر مرونة لتحقيق استفادة أكبر للوطن أو ربما أصبحت أكثر انضباطا مما يقلل من سوء الاستخدام (المقصود أو غير المقصود!!) فهل نجد علاجا سريعا أم تودع تقارير ديوان المراقبة العامة وملاحظات مجلس الشورى أرفف المكاتب والمكتبات الحكومية ونظل نسير في طريق ممتلئ بالخلل والقصور وتبقى جهودنا الوطنية المخلصة حبيسة الأدراج!!