قليل من الناس في ليبيا يجرأون على معارضة عقيد الجيش المسن والذي يحكم بتسلط هذه الدولة النفطية المغلوب على أمرها ويعد فتحي الجهمي ضمن تلك القلة الجريئة. ففي مقابلة أجريت معه في قناة فضائية عربية بعد وقت قصير من إطلاق سراحه من السجن في مارس الماضي لم يدخر المهندس الجهمي الشجاع والجد كلمات قدح وذم للعقيد معمر القذافي واصفاً له بأنه مجرم حرب وإرهابي.. واعتقل الجهمي في اليوم التالي ولم يسمع عنه شيء من ذلك. وربما تكون ليبيا قد عادت مؤخراً إلى الدائرة الدبلوماسية الغربية فقد زار ليبيا قلة من القادة الأوروبيين هذا العام.. هذه الدولة والموصوفة دولياً بالمارقة كما ان الولاياتالمتحدة تعتزم إعادة فتح سفارتها هناك غير ان ليبيا تبقى بلدا تحت سيطرة محكمة لا تطيق ولا تتحمل أي معارضين. وهناك مؤشرات صغيرة للتغيير تحمل دلالات على أن صوت الجهمي المنتقد ربما يلحق به آخرون قريباً.. وفي الوقت الراهن فإنه بالرغم من أن أجهزة الأمن المتنامية النفوذ والتي طالما أسكتت أصوات المعارضة السياسية وأبقتها صامتة وحافظت على بقاء معمر القذافي في السلطة فإنها لا تزال تمارس مهمة الترصد والتعقب ومعاقبة المعارضين عندما يكون الأمر ضرورياً. وهكذا كان ولا تزال الحال في ليبيا منذ موجة الإعدامات وحالات اختفاء الأشخاص طيلة عقود مما أجبر معظم الليبيين على الاعتقاد قهراً بأن هذه أفضل طريقة للحكم. وكان الجهمي ضمن أولئك الناس لفترة من الزمن فقد تدرب كمهندس مدني وأشرف على إدارة شركة انشاءات رئيسة خلال السنوات الأولى من حكم القذافي وأصبح في نهاية المطاف مسؤولاً إقليمياً ثم ترك منصبه في عام 1973م لبدء عمله التجاري الخاص غير أن التأميم فرض بعد سنوات قليلة في البلاد وبعد ذلك أصبح الجهمي شوكة في عباءة العقيد القذافي فقد شرع في كتابة رسائل إلى الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان والتظلم علناً من الحكومة. وفي أكتوبر عام 2002م أخذ الجهمي مكبر الصوت في مؤتمر شعبي رئيسي في حش المنشية في طرابلس ودعا إلى إجراء انتخابات حرة وصحافة حرة والتخلي عن الكتاب الأخضر الذي يمثل رد القذافي على كتاب ماو الأحمر والذي يوضح الكيفية التي يتعين أن تحكم بها ليبيا وسرعان ما تم اعتقال الجهمي بتهمة إهانة العقيد القذافي والتحريض لإثارة نزاعات وخلافات محلية وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات. ولم يكن الجهمي الوحيد الذي لقي ذلك المصير حيث تقول منظمات حقوق الإنسان في الخارج ومجموعات المعارضين الذين يعيشون خارج ليبيا بأن عشرات المعارضين للقذافي يقبعون خلف القضبان الحديدية بما فيهم أكثر من ثمانين من أساتذة الجامعات الذين دعوا للديمقراطية وحكم القانون وتردد أن البعض منهم ينتظر تنفيذ حكم الإعدام فيه. وتجادل الحكومة الليبية الآن ببساطة بأن الجهمي خالف القانون غير أن المدافعين عن حقوق الإنسان يقولون ان القوانين الليبية صيغت بطريقة غامضة وغير واضحة بما فيه الكفاية للإيقاع بأي شخص ترغب في أن يبقى صامتاً. ومع ذلك فإن الوضع الحالي يشهد تغييراً طفيفاً هنا فقد أعادت ليبيا فتح أبوابها أمام الغرب وظهرت فرص اقتصادية جديدة تمنح بعض الليبيين نوعاً من الاستقلالية في الوقت الذي يشجع فيه الاتصال الجديد بالغربيين آخرين للتعبير عن آرائهم بطريقة أكثر انفتاحية. وتشجع بعض المعارضين من العلاقات الدبلوماسية والاستثمارات الأجنبية الجديدة والتي زادت بدورها من الضغوط الخارجية على الحكومة للاستجابة لاتهامات انتهاكات حقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال حازت الحملة الرامية لإطلاق سراح الجهمي على اهتمام عضو مجلس الشيوخ من الحزب الديمقراطي جوزيف بيدن والذي أثار قضية الجهمي مع العقيد القذافي عندما زار طرابلس في مارس الماضي وبالفعل تم إطلاق سراح الجهمي بعد أقل من أسبوعين من تلك الزيارة. وأصبح الجهمي منذ إطلاق سراحه مثار اهتمام محلي وخارجي وفي الغرب أيضاً فضلاً عن اهتمام الصحفيين العرب الذين سارعوا بالاتصال به متلهفين لمعرفة وجهات نظره المعارضة بصفته صوتاً سياسياً بديلاً في البلاد. وأجرى الجهمي بالفعل مقابلات تلفازية مع فضائية الحرة الناطقة باللغة العربية التي تمولها الولاياتالمتحدة ومع قناة العربية الفضائية التي يصل إرسالها من دبي إلى المشاهدين في كافة أرجاء العالم العربي بما فيها ليبيا حيث صب جام غضبه على القذافي وبسرعة انتشرت مقابلاته تلك وسط المجتمعات العربية. وقال أحد المواطنين الليبيين الذي طلب عدم كشف النقاب عن هويته بأن الكثيرين من الناس شاهدوا وسمعوا تلك المقابلات والتي جعلت من الجهمي شخصية مشهورة وعلى كل لسان في ليبيا. وفي تلك الليلة التي تم فيها بث المقابلة التلفازية زحفت مجموعة من المتظاهرين إلى منزل الجهمي مهددة بقتله وقال العديد من الليبيين بما في ذلك أحدهم الذي شاهد المظاهرة بأنه أمر مؤكد تقريباً قيام الأجهزة الأمنية أو المؤتمرات الشعبية الثورية الخائفة التي تضاءل نفوذها في السنوات الأخيرة والعاملة على حماية النظام بتنظيم تلك المظاهرة. وقد أصيب الجهمي بجراح طفيفة في المواجهة مع المتظاهرين وانسحب إلى داخل منزله حتى وصول عملاء المباحث إلى المبنى المؤلف من أربعة طوابق وأخذوه معهم بالإضافة إلى زوجته وأحد أبنائه وقد تم إطلاق سراح الزوجة والابن على التوالي في سبتمبر ونوفمبر الماضيين غير أن مكان اعتقال الجهمي لا يزال غير معروف حتى الآن. وفي خارج منزل الجهمي في جنوبطرابلس يجلس اثنان من عملاء المخابرات الليبية أحدهما داخل سيارة والآخر في كرسي أمام بوابة المنزل المفتوح حيث ابعدا أحد الصحفيين الزائرين للمنزل.. وقال رجل بدين يدعى كمال يدير محلاً للاتصالات في الشارع الذي يوجد فيه المنزل بأنه سمع أن عائلة الجهمي قد غادرت إلى بنغازي وأن المكان يوجد به فقط رجال المباحث. وقال محمد الجهمي شقيق فتحي الجهمي في مقابلة هاتفية معه من مدينة شيلمسفورد في ولاية ماشوسيتس الأمريكية بأن المنزل قد تمت مصادرته. وقال سيف الإسلام نجل القذافي والذي يحظى بنفوذ في الكثير من القضايا الليبية مثار اهتمام الغرب في مقابلة معه «ان الجهمي يتم التحفظ عليه حماية له بعد إهانته للزعيم».. غير أنه قال في وقت لاحق عبر متحدث ان الجهمي قد انتهك القانون عبر التآمر ونقل معلومات إلى دول أجنبية وعقد اتفاقات مع عناصر أجنبية تخص شؤون داخلية ليبية. ونقل المتحدث عن نجل القذافي قوله ان الجهمي بدأ في التحدث إلى بعض العناصر في الولاياتالمتحدة وشرع في التنظيم والعمل معهم، وربما يكون في هذا إشارة إلى محادثة الجهمي مع شقيقه في الولاياتالمتحدة الذي يتزعم اتحاد الحرية الأمريكي الليبي وهي مجموعة معارضة ليبية في الخارج. وأوضح نجل القذافي عبر متحدثه أيضاً بأنه سيتم قريباً السماح لمنظمة حقوق إنسان بزيارة الجهمي للتأكد من أنه بصحة جيدة. وقال شقيق الجهمي بأن هنالك قانوناً ليبياً يمنع المواطنين الليبيين من إجراء مقابلات مع أجهزة إعلام أجنبية بدون موافقة الحكومة مضيفاً ان تهمة التآمر ضد الجهمي ربما تكون بسبب اتصالاته معه وأصر محمد الجهمي على القول بأن شقيقه لم يرتكب جريمة تعاقب بالسجن. ومضى محمد الجهمي قائلاً انه يتحدث نيابة عن المنخرطين في الحركة الوطنية الليبية الذين يرغبون في حدوث إصلاحات ببلدهم مضيفاً انه لا توجد أي نية للنظام الحاكم في ليبيا لفعل ذلك. وقال فريد ابراهامز كبير الباحثين في منظمة هيومان رايتس ووتش المعنية بمراقبة حقوق الإنسان في العالم بأنه كان من المقرر أن يقوم فريق من المنظمة بزيارة ليبيا في أوائل ديسمبر الحالي غير ان السلطات الليبية لم تصدر مطلقاً التأشيرات اللازمة لهذه الزيارة ما أدى إلى إلغائها مضيفاً انه بالرغم من ذلك فإن المنظمة مستعدة للقيام بهذه الزيارة إذا رغبت السلطات الليبية في ذلك حقاً. (نيويورك تايمز خاص ب «الرياض»)