أدت شهادات الجنود الإسرائيليين و التي كشفتها "هارتس" حول قتلهم فلسطينيين أبرياء في الحرب في غزة إلى خلق حالة من الذهول. الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي سارع للقول "ليست لدى الجيش الإسرائيلي أية معلومات تؤيد الأحداث التي ذكرت"، أما وزير الدفاع فسارع الى القول "الجيش الإسرائيلي هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم". قسم التحقيقات العسكرية صرح بان الجيش سيحقق في الأحداث. كل ردود الأفعال السخيفة هذه ترمي فقط الى الخداع والتضليل، هذا إن لم نقل الكذب بوقاحة. الجيش الإسرائيلي كان يعرف جيداً ما الذي فعله جنوده في غزة، كما أن المسئولين فيه لن يحققوا بما حدث بجدية. كالرعد في يوم مشمس، سقطت علينا شهادات خريجي الكلية التحضيرية العسكرية في اورانيم، كيف ذبح الجنود أماً وطفليها، وكيف أطلقوا النار على عجوز فلسطينية فأردوها قتيلة، وكيف شعروا عندما يقتلون بدم بارد، وكيف حطموا ممتلكات الفلسطينيين، وكيف لم يكن هناك قتال بالمرة في حرب لم تكن حرباً. ولكن ليس هذا رعداً ولا يوماً مشمساً، كل شيء كان معروفاً من قبل لمن أراد أن يعرف، ولمن قرأ – على سبيل المثال - تقارير عاميرا هاس من غزة. و أيضاً، كان كل شيء قد بدأ منذ زمن بعيد،حتى قبل الهجوم على غزة. أفعال الجنود هي نتيجة حتمية لأوامر الحرب القاسية هذه، وهي الامتداد الطبيعي للسنوات التسع الأخيرة، التي قام الجنود خلالها بقتل خمسة آلاف فلسطيني تقريباً، نصفهم على الأقل مواطنون أبرياء، وألف منهم من الأطفال والفتيان. كل ما وصفه الجنود في غزة، كله جرى خلال هذه السنوات الدموية وكأنه أمر اعتيادي. ولكن السياق هو الذي كان مختلفا وليس القيم. جيش لم تصطدم مدرعاته منذ ستة وثلاثين عاما مضت بدبابة معادية ولم يلتق طياروه بطائرة حربية للطرف الآخر، تدرب على الاعتقاد أن مهمة الدبابة الوحيدة هي سحق السيارات الخاصة ومهمة الطيار الوحيدة هي قصف الأحياء السكنية. إتاحة المجال لذلك من دون حيرة وتردد أخلاقي لا داعي له. دفع الجهاز لتدريب جنودنا على الاعتقاد بان حياة الفلسطينيين وممتلكاتهم ليست مسألة ذات قيمة. عملية نزع للشرعية تتواصل منذ عشرات السنين كثمرة للاحتلال. "هذا هو الأمر الجميل في غزة، أن ترى إنساناً يمر عبر طريق... وبإمكانك أن تطلق عليه النار بكل بساطة". هذا "الجميل" يحدث منذ أربعين عاما. "ما شعرت به هو الكثير من التعطش للدم" والمستمر منذ سنوات. اسألوا أبناء عائلات ياسر الطميزي، العامل البالغ من العمر 35 عاماً الذي قام الجنود بقتله وهو مقيد اليدين، ومهدي أبو عياش الفتى ابن 16 ربيعاً الذي سقط ضحية الأيام الأخيرة التي سبقت حرب غزة والذي يقبع اليوم في المستشفى وهو بحالة موت سريري. أغلبية الجنود الذين شاركوا في الهجوم على غزة هم شبان ذووا قيم. بعضهم سيتطوعون لكل مهمة، لمساعدة امرأة مسنة في اجتياز الشارع أو إنقاذ المصابين في هزة أرضية، ولكن في غزة وبمواجهة الفلسطيني (غير الآدمي) الذي يعتبر شيئا مشبوها دائما، يؤدي غسل الدماغ الى طمس العقول وتغيير منظومة القيم. بهذه الطريقة فقط يمكنهم أن يقتلوا ويدمروا بصورة جماعية من دون حيرة أو عذاب أو تأنيب ضمير. خلافاً لما قاله احد الجنود، "مهما قلنا عن الجيش الإسرائيلي انه جيش ذو قيم فإن ذلك لا يكون على مستوى الميدان ولا على مستوى الكتيبة".الجيش الإسرائيلي لم يعد منذ زمن ذا قيم يلتزم بها، لا في الميدان ولا في الكتيبة ولا في القيادة العليا. عندما لا يحققون طوال سنوات بآلاف حوادث القتل، تكون الرسالة للجنود واضحة وهي آتية من الأعلى. رئيس هيئة الأركان غابي اشكنازي، الذي لم تشبه شائبة بعد، لا يستطيع أن يتفاخر بنقاء يديه. هي ملطخة. ما وصفه جنود الكلية التحضيرية الحربية هي جرائم حرب ومن الواجب أن تجري محاكمتها. هذا لن يحدث باستثناء الخردة المسماة "تحقيقات قيمية"، في الجيش الذي قتل 1300 شخص خلال 25 يوماً وترك من ورائه مائة ألف من المشردين بعد أن هدم منازلهم وتحقيقات شرطته العسكرية التي لم تفض الى شيء. الجيش الإسرائيلي ليس قادرا على التحقيق بجرائم جنوده وقادته، ومن السخافة بمكان أن نتوقع منه أن يفعل ذلك. نحن لا نتحدث عن إطلاق نار عن "طريق الخطأ" و إنما عن إطلاق سيل من النيران بعد تلقي أوامر مسبقة. لا نتحدث عن "استثناءات" و إنما بروح القائد، وهذه الروح شريرة مستطيرة وفاسدة منذ زمن. و طالما أننا لم نعترف بالفلسطينيين كآدميين مثلنا فإن شيئاً لن يتغير. ولكن في هذه الحالة سيزول الاحتلال لا قدر الله! في هذه الأثناء يتوجب عليكم أن تستعدوا للحرب القادمة وللشهادات الصعبة التي تليها حول الجيش الأكثر أخلاقية في العالم. غدعون ليفي هآرتس