لا يملك الإنسان إزاء الرأسمالية الأمريكية إلا أن يكون مؤيدا أو معارضا لها. فهي في تطورها تمر بدورات من النجاح والتغيير والمراجعة. ولا يمكن بالضبط تحديد متى بدأت آخر دورة تغيير ومراجعة. هل كانت البداية عند انهيار مصرف ليمان بروزرز أو عندما سعت شركة جنرال موتورز للحصول على دعم الحكومة الفيدرالية؟ أم أن بداية الأزمة ما نراه من غضب حالي ضد أرباح أميركان إنترناشونال غروب؟ كل ذلك غير مهم. المهم أن الرأسمالية محاصرة ومستقبلها مجهول! ويرى سشومبيتر، أحد أشهر الاقتصاديين في القرن العشرين أن الرأسمالية تحمل عوامل فنائها. فهي في الأساس تتميز على المدى البعيد بقدرتها على زيادة الثروة ورفع مستوى المعيشة. ولكن سياساتها على المدى القريب تعتمد على مساوئها المتمثلة في عدم الاستقرار والبطالة وعدم المساواة. وكذلك يؤدي ازدهار الرأسمالية إلى ظهور طبقة معارضة من "المثقفين" الذين يذكون أوار السخط الشعبي، وينتقصون من ميزاتها (المتمثلة في الثراء الشخصي والمغامرة)، والتي تشكل قاعدة النجاح الاقتصادي. ويبدو أن كل ما جاء في تشخيص سشومبيتر صحيح، باستثناء النتائج التي خلص إليها انطلاقا من ذلك التشخيص. فقد ازدهرت الرأسمالية الأمريكية على الرغم من القيود المتكررة التي أدخلها المشرعون الناقمون. وهذا التحول واضح بإدخال قانون الاحتكار في عام 1889، وقانون ضريبة الأعمال في عام 1909، وقانون لجنة البورصة والأوراق المالية في عام 1934، وقانون وكالة حماية البيئة في عام 1970. يضاف إلى جعل تحقيق الربح تاليا للقيم الأخرى في ترتيب الأولويات. ويقول روبرت فرانك، من جامعة كورنيل "بدأنا بالتدريج نأخذ في الاعتبار الآثار الخارجية (للأعمال) وجعلها تحت السيطرة". وتشمل التكاليف الخارجية: إصابات حوادث العمل؛ وقوة الاحتكار؛ والمناورات المالية للتأثير على الأسعار؛ والتلوث. وتشكل الفضائح والمصاعب الاقتصادية المحرك لموجات الإصلاح الكبرى. وتتسبب الفضائح في إقصاء بعض الشركات، وتؤدي المصاعب الاقتصادية إلى المطالبة بالتحرك لمواجهتها. ويقترن الماضي بالأحداث المرعبة، وحسب ما ذكر المؤرخ ريتشارد تيدلو، من مدرسة الأعمال بجامعة هارفارد "من كان يعتقد في عام 1928 أن ريتشارد ويتني رئيس بورصة نيويورك سيصبح أحد نزلاء سجن سنيغ سينغ في عام 1938؟"، بعد إدانته بخداع عملائه. كذلك تعرض بيرني مادوف، الذي كان رئيس بورصة ناسداك، وعضو المؤسسة المالية، للمشاكل وأقر بارتكاب جريمة الاحتيال. ولا يزال سؤال سشومبيتر قائما. هل فقدت الرأسمالية حيويتها؟ ويتطلب نجاح الرأسمالية ثلاثة شروط: أولا شرعية دافع الربح، أي القدرة على تجويد الأداء ولو بصورة خيالية ، ثانيا توسع الأسواق التي تكون مسرحا للنجاح والفشل ، وأخيرا توفر النظام القانوني والسياسي الذي يخلق، إلى جانب ضمان حقوق الملكية والتعاقد، قبول الرأي العام لاقتصاد السوق. ونلاحظ أن الشرط الأخير يؤثر في الشرطين الأولين، لأن الحكومة تستطيع، من خلال الضرائب والقوانين والنظم، إضعاف دافع الربح والتدخل في الأسواق. ويظل السبب الرئيس في عدم تحقيق نبوءة سشومبيتر هو أن الرأسمالية الأمريكية، ليست على مستوى الشركات فحسب، بل على المستوى السياسي الأوسع، قادرة على التكيف بدرجة هائلة. فهي تتماهى مع قيم الرأي العام المتطورة، وفي نفس الوقت تحافظ على محفزات العمل الخاص. كذلك تدعم طبيعة المجتمع الأمريكي الكادح ثقافة الأعمال وأخلاقيات العمل، اللتان تشكلان قاعدتي الرأسمالية. أما القوانين الجديدة فكثير منها لا يمنع تحقيق الأرباح لأن زيادة التكاليف يتحملها المستهلك الذي يدفع أسعارا أعلى للحصول على المنتجات. كذلك من الخطأ الاعتقاد بأن الحكومة تشكل عائقا لعمل الشركات، بل العكس هو الصحيح في الغالب، أي أن الحكومة تعمل على تشجيع شركات الأعمال. ويقول المؤرخ ديفيد كينيدي إن بعض الإصلاحات ساعدت على جعل المخاطرة تحت السيطرة. فقد أنهى ضمان الودائع المخاوف التي كانت تعاني منها المصارف في الماضي. وساعدت ضمانات الرهن في حدوث طفرة العقار بعد الحرب العالمية الثانية. حيث ارتفعت نسبة امتلاك المساكن من 44 في المائة في عام 1940 إلى 62 في المائة في عام 1960. وقبل ذلك وزعت الحكومة الفيدرالية 131 فدانا من الأراضي في الفترة من 1850 إلى 1872 لتشجيع أعمال السكك الحديدية. ومع ذلك قد لا تكون نهاية الانتكاسة الاقتصادية الحالية بردا وسلاما على الرأسمالية الأمريكية. حيث أدت مطالبة الشركات الأمريكية الكبرى للحكومة بتقديم العون، بالإضافة إلى الجشع الواضح من قبل الشركات إلى حالة من الغضب المبرر، الذي قد يتحول إلى إجراءات انتقامية مدمرة. فأعضاء الكونغرس يحبون التعبير عن حنقهم في أحاديثهم التي تنقلها قنوات التلفزيون. وإذا كانت الشركات تود إنقاذها من "السوق" فلماذا لا تدير الحكومة السوق بصورة دائمة؟ وهذه طريقة تفكير خطيرة. لأنها تبرر فرض ضرائب عقابية، وفرض المزيد من القوانين والتدخل في النشاطات اليومية للشركات. وقد تحصل الشركات القديمة ذات النفوذ السياسي على امتيازات على حساب الشركات الجديدة. وقد توجه الابتكارات والاستثمارات نحو مشاريع خاسرة اقتصاديا. (واشنطون بوست)