كانت وما تزال مواسم الحج والزيارة تمد الشعراء بمثريات الشعر ، وتعمق قنوات الاتصال بين زوار مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة ، ويتميز الماضي بطول الفترة الزمنية التي يقضيها الحاج أو الزائر بين هاتين المدينتين المقدستين ، إذ كانت الإبل والسفن والأقدام هي وسائل التنقل الإنساني ، وفي هذه الأثناء التي يبعد الناس فيها عن مرابعهم تنحصر ارتباطاتهم ومسؤولياتهم في موضوعات قليلة ومحددة فيتاح لهم مناخ يتبادلون فيه إبداعاتهم ويجود فيه إبداعهم، وكان أهل الحجاز أغزر تجربة لتجدد صلاتهم بهذه المواسم ، بل إنهم يعقدون على هذه المواسم آمالاً كبيرة لتحسين أوضاعهم الاقتصادية ، فيؤم أهل المدر مدن الحج للعمل أو التجارة أو نقل الحجاج على الإبل وبيع منتوجات مناطقهم من عسل وسمن وحطب وأعلاف وتمور في الأسواق والمحطات التي ينزل بها الحجاج . وفي هؤلاء العرب من الظرفاء والذين صقلت تجربتهم تكرار تواصلهم مع هذه المناسبات ، وبين الحجاج من المثقفين من شغلوا بالتدوين والبحث وحب الاطلاع على ثقافة الآخر . والجمَّالة أو أصحاب الإبل يجتمعون في المحطات ويتساجلون شعراً جاداً أو طريفاً يستمتعون بجميله ويفاخرون بإبداعاتهم . وفي جلسة للطرافة والتفاخر بعمل المستحيل اجتمع الشعراء ذات مرة في رحالهم وقال أحدهم مفاخراً: حنّا رمينا الذيب ما اخطينا من راس عاصر للسبيعية وعاصر والسبيعية موقعان يبعد أحدهما عن الآخر مسافة لا يمكن معها إصابة الهدف لبعدهما ، فكيف والرماية لإصابة الذئب المعروف بالحذر. ويجيبه الآخر : حنّا وردنا البحر واروينا وبدار نص الربع مطوية والبدار هي القرب الصغيرة . ويجيب الآخر: مع ثقب الابرة ملّطوا بينا وايضا معه ركباً وطرقية وبينا جبل معروف في الحجاز يستحيل مروره بأوسع الأودية لو حرك فكيف يمكن تمريره من ثقب الإبرة . ويرد آخر : حنّا حمسنا البن في ايدينا ما عقَّبت فيها السحومية وأخيراً يقول آخر : حنّا مسكنا الشمس بايدينا وان قمت غير اكف رجليّه وعندما تدخل أحد الحجاج المغاربة سائلاً : ما هذا الذي تقول ؟ قالوا هذه مفاخرة شعرية . قال وأنا أقول إذاً : نحن اولاد الغرب ما نعرف نكذبا نحمل البرغوث ميّة أردبا ونعلق القصعة وفوقه نركبا وذلك من دعاباتهم التي يقصرون بها المسافات ، ويطفئون بها شواظ الغربة . أما إذا دخلوا المدن فإن مشاعرهم تستجيب لمؤثرات ما يشاهدون فيها، ولكنهم يطوون على ذلك أجنحة الأدب والرهبة ، فيخالهم أهل المدن سذّجاً قساة القلوب وهم من أذكى الناس وأدقهم معرفة بما يحدث من حولهم . ومن ذلك أن الشاعر علي بن غنمي شاهد فتاة جميلة بين الحجاج ، وظل مشدوهاً بجمالها ، عالماً ببعد منالها مبعداً اهتمامها به ، وظل يتابعها في مكةوالمدينة ، وعارفاً الصراع الذي يجري بين المطوف الذي يصحبها من مكة وبين المزوَّر الذي يستضيف قافلتها في المدينة ، ولكن ليس له إلا أن يشاهد تسابق المتصارعين إلى خدمتها ، وتفانيهما في تيسير أمر وفادتها ، وقضاء حاجتها . ولكن الشاعر يتخيل قصة غرام عميقة فيقول: قلت اه من ونّتى لجّت كما الحمر المواليف الليلة امسيت يا طرق الهوى فيَّهْ مموّر أمسيت في ديرة اللي ما يعرفون المعاريف واحالي اللي غدت بين المطوف والمزوّر وقد دعاه هواه وخياله إلى تصور رد الفتاة على قوله بقولها : والله لولا الحيا واخاف بعض الصواديف لا سقيك شربة ترش الكبد ماها ما يعوّر أسقيك من ماكرة ما صافقوها بالمغاريف وما سبّروها الورود ولا عثر فيها المدوّر إنه خيال الشاعر الذي تفضحه مفردات شعره ، وتنم عن أمانيه عباراته .