كنا نطلق على السعودي في لندن ثري بيسز. كان هذا في السبعينات الميلادية.أول ما يصل السعودي إلى لندن في تلك الحقبة يتجه على الفور إلى شارع أكسفورد ويشتري بدلة ثلاث قطع وقميصين( واحد أصفر وواحد أحمر) وجزمتين وحدة سوداء والثانية بنية وثلاثة شراريب دون تدقيق. فور أن يعود إلى الفندق يدعك نفسه بليفة جايبها معه من المملكة خصيصا وبعد أن يشيل غبار الوطن عن جسده يلبس البدلة ويأخذ تكسي ويتجه على الفور إلى ساحة البيكادلي أو حديقة الهايدبارك حتى لو كان الفندق لا يبعد سوى عشرين متراً . التكسي الأسود اللندني من علامات السعودة. لن تخطئ سعوديي لندن تلك الأيام على الإطلاق. أبيض أسمر أحمر قصير طويل سمين نحيف شاب عجوز مكاوي رياضي حساوي عسيري. مجرد أن تشاهد رجلاً يتجول في حديقة الهايدبارك يلبس بدلة ثلاث قطع وكنادر تلمع وشعره يتلاصف من كثرة الكريم فأعرف أنه سعودي. أول شعب في العالم يتنزه في حديقة عامة ببدلة وكنادر سوداء فاخرة وكرفته لا علاقة لألوانها بلون البدلة أو القميص. أتذكر شاباً سعودياً يعتقد أنه مثقف.( من باب الأمانة كان مثقفا حسب مقاييس السبعينات). يأخذ كتاب الصرصار لكافكا أو قلب الظلام لكونراد ويطق بدلة ثلاث قطع قماشها من الصوف الانجليزي الفاخر لونها قريب من البني يضع تحتها قميصاً أصفر فاقعاً وشعره المدعوك بالكريم يتناغم مع جزمته السوداء اللامعة( الكريم يشتريه من البطحاء تحديدا) . يوميا كفرض صلاة يجلس على مدخل الهايدبارك المقابل للكوينز وي يقرأ وعيناه على الخليجيات المتجولات. يده على الكتاب وقلبه على المدخل. كان من علامات لندن البارزة. نصحته ذات مساء إنجليزي صاف أن يكف عن قراءة الكتب أثناء المغازل. تلهيك وتفقدك التركيز ولا تضيف لك نقاطاً عند بنات لندن الخليجيات. ثم أن أهدافك تحتاج إلى دوران. يكفيك يا أخي أن تكون في لندن وتلبس بدلة ثلاث قطع. لم أره بعد صيف ثمانية وسبعين لمدة خمس وعشرين سنة.عندما رأيته آخر مرة شعرت أنه سمع نصيحتي ولكنه توسع في تطبيقها. كف عن قراءة الكتب نهائيا بمغازل أو بدون. لا أتحمل المسؤولية. أتذكر أنني أكدت عليه أن يبطل القراءة عند المغازل فقط. شاهدته قبل ثلاث سنوات في لندن، رجلاً مهترئاً بصلعة لمعتها منها وفيها( وفر الله عليه حق الكريم) . الشيء الوحيد الذي بقي من مثقف السبعينات إصراره على البدلة الثلاث قطع المصنوعة من الصوف الإنجليزي والجزمة اللامعة والمغازل. عندما شاهدته آخر مرة في لندن كان يجلس مع ثلاثة شياب سعوديين في أحد المقاهي الشهيرة القريب من متجر هارودز، نفس نظرات الأيام القديمة، نفس اللفتات نفس التطلعات، تركته ليموت في لندن ولكنه فاجأني بوجوده في معرض الرياض للكتب، سألني أين أجد كتب كافكا وكونراد؟ قلت له: إذا وجدتها فلن تجد إلا بنات بنات خليجيات الهايدبارك.