لدينا لا شك حداثة أدبية على مستوى الشعر والرواية وسائر أنواع الكتابة، ولدينا مبدعون لا يقلون عن مبدعي الغرب، بل قد يفوقون عليهم، لكنها الهالة الإعلامية على كل ما هو غربي، لكن ليست هذه هي الحداثة التي أنجزها الغرب، إنها أثر من آثارها، أو إن شئت فقل جانب صغير منها. فالغرب أنجز حداثة جذرية شاملة منذ تعرفه إلى حضارتنا الإسلامية، بدأها بعصر النهضة، فالتنوير، فالحداثة التي تسحرنا اليوم. وتلك العصور لم تكن نتيجة قصيدة شعر أو رواية أو مسرحية على غير مثال سابق، فتلك الأنواع الأدبية موجودة قبل محاكم التفتيش فلم تفعل شيئاً. شيء واحد زلزل تلك الجدران الرهيبة التي ظلت حارساً للظلام والخرافة ألف عام منذ أن بناها قسطنطين وأمثاله حول أوروبا. شيء اسمه (العلم التجريبي) الذي حرقت وشنقت محاكم التفتيش رجاله وهم يقدمون المعلومة تلو المعلومة والكشف تلو الكشف حتى ذابت جدران الظلام بشمسه من يلوم برونو وجاليلو وكوبرنيكوس وغيرهم، من يلوم علماء الطب اليوم وهم يقرأون (شريعة الغيرة) التي تنسب لله: إنك إذا شككت أن زوجتك تخونك فاذهب إلى القس ومعك قليل من الشعير المطحون دون أي إضافات وأعطه إياه، ليضيف ماء مقدساً إلى الطحين في إناء من خزف، ثم يضيف ماء مراً آخر يسمى ماء اللعنة، ثم يجعل زوجتك تمسك هذه (المقادير) المقدسة بين يديها، ثم يقرأ على الخلطة: (إن كنت قد خنت زوجك فعليك اللعنة، وماء اللعنة هذا سيتحول في بطنك إلى ورم (خبيث) يتعاظم حتى يسقط فخذك. أما إن كنت بريئة فلن يضرك ماء اللعنة المر. ولن تصابي بورم خبيث أو حتى حميد، ولكن أبشري، سيتفاعل الماء المقدس مع ذلك الشعير ليتحول إلى جنين وطفل جميل بريء مكافأة لك على طهارتك وعفافك. فتقول الزوجة: آمين. ثم يسقيها القس ذلك الشراب فإن كانت خائنة حدث لها ذلك الورم الذي سيقطع فخذها، وإن كانت بريئة تحول الماء والطحين إلى جنين. أيلام العلماء التجريبيون الغربيون إذا هرطقوا بعد هذا النص وكفروا بالمقدس؟ في السياق نفسه، وفي موضوع الجنين نفسه، يقرأ أحد أبرز علماء الأجنة في العالم اليوم، الكندي (كيث. إل. مور) قوله تعالى في القرآن: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) فيسلم، معترفاً ومقراً أن هذا الكلام الدقيق في تخلق الجنين لا يمكن أن يكتشفه رجل أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة قبل 1400 عام في تلك الحقبة التي كانت جداته يعانين من خلطة (الشعير بماء اللعنة) في أوروبا، ولا يكتفي (مور) بذلك، بل يغير مراحل الجنين من مرجعه إلذي ألفه إلى المراحل القرآنية بدلاً من (1 - 2 - 3) فهي أدق. عندما نقرأ عن إعدام ثلاثين ألف باحث بتهمة التفكير أو الاكتشاف، فإننا نتعرف إلى أهم اختبار لا مناص لمن يصف نفسه بالمفكر العلماني العربي من النجاح فيه كي يكون كذلك، ألا وهو: أن يقدم لكيث مور ولعشرات من العلماء التجريبيين الغربيين الذين أسلموا أن يقدم لهم ومن خلال المعامل والأجهزة الحديثة وبالتجربة العلمية، لا بالقصيدة والرواية أن هذا القرآن ليس من عند الله، وإلا فلن يعدو حداثة الأدب، وهي حداثة فيها الجميل والرائع والجديد وتوسع الصدر (أحياناً).