يستحق شهر مارس هذا أن يسمى شهر الثقافة في الرياض، لأنه يشهد ثلاث مناسبات ثقافية كبيرة: معرض الرياض الدولي للكتاب، ومهرجان الجنادرية الرابع والعشرين، والندوة السعودية الفرنسية لحوار الحضارات. لكن السياسة وما يتعلق بها لم ترض أن تحتل الثقافة مساحة هذا الشهر دونها فتداخلت بحدثين هامين: الأول مؤتمر شرم الشيخ لإعمار غزة، والآخر صدور قرار المحكمة الجنائية ضد الرئيس البشير. ومع كل حدث سياسي أو ثقافي أجد نفسي تواقة لتقول شيئاً لا لأنني أهوى القول، بل لأنني أصدر عن تخصص أو اشتغال بالحدث السياسي والثقافي. وقد فكرت أن أختصر القول في هذه الأحداث الخمسة، ثم رأيت أن الاختصار سيخل بالمعالجة وبسط القول. ثم فكرت أن أختار موضوعاً واحداً وأترك البقية لأحاديث قادمة. لا بأس من تناول موضوع ثقافي واحد، وإرجاء البقية لأسابيع قادمة، لكن الموضوعات السياسية الساخنة لا تحتمل التأجيل. وستحترق في أيام معدودات. ولن يأتي موعد حديثي القادم إلا وأصبح موضوع إعمار غزة، وقرار المحكمة الجنائية قد اشبعا بحثاً وتأويلاً، من قبل كتَّاب ومحللين يكتبون بصفة يومية. وبالتالي لن يكون التطرق لهما ممكناً. وهكذا رأيت أن أتحدث اليوم عن معرض الكتاب بالدولي. وأرجئ غيره لأحاديث قادمة. أنا من المغرمين بمعارض الكتب، وفي الشهر الماضي ونيف كتبت عن معرض القاهرة، وفي العام الماضي كتبت عن معرض فرانكفورت. أعشق معارض الكتاب، وأجد متعة لا تعادلها متعة، وراحة نفسية تفوق كل راحة عندما أمشي بين مرابع الكتب، أو أقف الساعات الطوال أتصفح بعض الكتب. ثم زادت متعتي وسلوتي عندما أصبحت الندوات من لوازم معارض الكتب. لا أحصي الساعات الطوال التي أمضيها في معارض الكتب. وكلما كان المعرض مناسباً ونظيفاً ومرتباً، مر بي الوقت وأنا في المعرض لا ألوي على شيء. وكلما كان عرض الكتب يتم بطريقة جيدة، وكلما كان الوصول إلى العناوين والفهارس ومواقع دور النشر ميسراً،زاد نهمي بالبقاء أكثر وأكثر. والحق أقول إن كل ما ذكرت توفر في معرض الرياض لهذا العام. فالمكان جديد ونظيف ومرتب. ودور النشر بلغت حوالي 650 داراً. وعناوين الكتب بلغت حوالي 250 ألف عنوان. هل هذا يكفي؟. الجواب لا يكفي هذا. الرياض الجميلة تستحق أكثر من هذا العدد. وهذا يقودني إلى ربط هذا العدد بقضية منع الكتب. لم يكن المنع اليوم كما كان في الماضي القريب. معرض الرياض شهد ويشهد انفتاحاً كبيراً. هذا الانفتاح وجد ترحيباً من قبل أطياف متعددة من المجتمع السعودي. ومع هذا لا بد من التنويه إلى أن بعض العناوين منعت أو تم اتخاذ منعها بعد عرضها. قرأت أن المنع طال 150 كتاباً. ويظهر أن الرقم أكبر من هذا. أعرف بعض الكتب التي تباع كما يقولون من تحت الطاولة. تحت الطاولة خدش يسيء لمعرض الرياض الجميل الذي يحقق النجاح تلو النجاح. لا داعي للمنع أساساً. منع الكتب يعني منع العقول من التفكير. ويعني الوصاية على العقول. وأظن أننا تجاوزنا هذه المرحلة. مكان المعرض فسيح ومرتب لدرجة أنك لا تمل ولا يضيق بك المارة مهما كثر عددهم ينقص هذا الترتيب توزيع خرائط لمواقع دور النشر. أتيت المعرض من أول يوم وبحثت عن خارطة ليسهل التعرف على مواقع دور النشر فلم أجدها. هذا أمر يجعلني أصرف وقتاً أطول. لكنني لم أتضايق لجمال المكان وحيويته. لم أر الأسر السعودية متبرمة من التجول والشراء والقراءة. كم شعرت بسعادة غامرة وأنا أرى الأب ومعه أطفاله، أو معه زوجته وهم يقفون ويقرأون، بل ويناقشون في قضايا. كم شعرت بالفرحة وأنا اقرأ علامات الرضا على محيا أب لأسرة وهو يقف منصتاً لولده أو بنته وهي تناقشه في صحة عنوان أو موضوع رواية أو مجادلة مؤلف. هذا هو الوضع الصحي. وما كان هذا ليتم لولا عزيمة رجال مخلصين عاملين. فبورك فيهم وفي عملهم. سرني اختيار البرازيل ضيف شرف لهذا العام. البرازيل تقف في منطقة وسط بين العالم الأول والعالم الثالث. لا يهم هذا. المهم أن البرازيل مهمة لنا من نواح عدة. شبابنا يعرف البرازيل جيداً. لكنهم يعرفون وجهاً واحداً. هاتفني أحد طلابي فرحاً بالاختيار. وهو قال إنه سيبقى في المعرض كل أيام العرض. وهو يقول إنه سعيد أن يشاهد السامبا البرازيلية في الرياض. لم أقل له هذا مستحيل. ولكنني عرفت مقدار ذكاء المسؤولين عندما اختاروا البرازيل. الرياضة البرازيلية بكل أدبياتها وفنونها وأعلامها محفورة في قلوب الشباب السعودي وعقولهم. وهذا الاختيار سبيل من سبل عدة لتحبيب القراءة، وتقريب الكتاب إلى الشباب. وجدت شباباً ما رأيتهم من قبل. وجودهم في أروقة المعرض بداية جيدة. الأدب البرازيلي والثقافة والفن البرازيليين مما يجهلها معظم السعوديين. ومعرض الكتاب فتح نافذة على البرازيل. بل إنه فتح نوافذ كثيرة. لقد أعجبني وأطربني سعادة سفير البرازيل الفنان. وهو قال إن بيننا مشتركات كثيرة، ليست الرياضة ولن تكون وحدها. وهو قال إن الشعب السعودي شعب يحب الحياة ويحب الناس ومثله الشعب البرازيلي، وأنا أقول لن تتقارب الشعوب بالسياسة. بل بالثقافة والعلم والفن والرياضة. ونحن كأمة عربية لدينا مخزون منها لا ينضب معينه. نحتاج فقط لطرق سليمة ومواتية وسالكة لنعرضها على الآخرين. وقد رأيت ما سرني من عرض تلك الفنون في معرض الكتاب وفي الجنادرية. دائماً نتطلع أن يكون معرض الكتاب عندنا يشبه معرض الكتب في الدول المتقدمة. وكلما وفر لنا المسؤولون في معارض الكتاب ما يتصف بالكمال، كما حدث في معرض هذا العام، طالبنا بالمزيد. ولا أظن أن هذا مما يغضبهم، وأنا وجدت في الندوات شيئاً من التواضع، نحتاج ندوات أكثر عمقاً وألصق بما يدور بيننا وحولنا. نريد أن نرى ونسمع علماء ما كنا نقدر أن نراهم، على أننا نريد الجمع بين سعوديين وغير سعوديين. وهنا أقترح أن يتم في العام القادم صنع ندوات مشتركة بين سعوديين وغير سعوديين وفي آن واحد. لا بد من عرض بضاعتنا إلى جانب بضاعة الآخرين. لا بد من فك الارتباط نهائياً بين معرض الكتاب ورجال الحسبة، لا بد من تحديد الصلاحيات بشكل يجعل كل طرف ينصرف لعمله، دون اجتهادات فردية، أو أن يتقمص بعض الشباب المتحمس دور المحتسب وهو ليس منهم، أو يتقمص دور مسؤول الثقافة والإعلام وهو ليس منهم. لا بد من وضع آلية حازمة لمنع المبالغة في سعر الكتاب. قرأت إعلاناً يتحدث عن معرض هذا العام يقول: (في المعرفة والعلم كن في الصورة)، أضحت الصورة ولله الحمد كبيرة تتسع لكل المقيمين في الرياض وغيرها من مدن السعودية، تتسع لكل الأسر مجتمعة. الصورة اليوم أجمل من الصورة أمس، وغداً ستكون الصورة أجمل وأبهى. شكراً لوكالة الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والإعلام.