لمقاومة الاحتلال الأجنبي ضروب شتى من طرائق المواجهة، والرفض، وفي مقدمتها الأعمال المسلحة، والعنيفة، ولكن من بينها أيضا المقاومة بالصمت، لكنها حال نادرة، إذ يعد الصمت ممارسة فاعلة من ممارسات الاحتجاج. وفي الغالب لا يحمل الصمت معنى التواطؤ، إنما الرفض. وفي الآداب الإنسانية الكبرى نجد نماذج تؤكد ذلك، وأخص بالذكر رواية (صمت البحر) للفرنسي الذي تسمى (فيركور) وقد كتبت الرواية بعيد اندلاع الحرب العالمية الثانية، واحتلال فرنسا، وصدرت في عام 1942 عن منشورات «منتصف الليل» وهي دار نشر فرنسية صغيرة تخصصت في إصدار الأعمال الأدبية المقاومة للاحتلال النازي. وكانت هذه الرواية من بواكير اصداراتها، وقد لاقت شهرة منقطعة النظير في فرنسا، ثم في العالم بعد ذلك، إلى درجة عدت أنشودة أدب المقاومة في العالم، ومازالت إلى اليوم محل تقدير كبير في الأدب الروائي، إذ ترجمت إلى معظم اللغات الحية، ومنها إلى العربية أكثر من مرة. اطلعت على هذه الرواية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، في وقت لم تلح بعد في الأفق إمكانية أن يكون العراقيون ضحية من ضحايا الحروب، ناهيك بالغزو، الاستعماري، والاحتلال الأجنبي. وكانت المناسبة لذلك رغبتي في معرفة أدب المقاومة، والاطلاع عليه إبان حقبة شاع فيها أدب المقاومة الفلسطيني، والفيتنامي، وراح يختلط بما كان يترجم آنذاك من الأدب الروسي الذي صور الحرب العالمية الثانية، وهو أدب غزير في كميته، قليل الأهمية في نوعيته. وسُحرت بتلك الرواية التي لا تتجاوز صفحاتها الستين صفحة، وأزعم أن عدداً كبيراً من مجايلي قد انجذب إليها، شأنهم في ذلك شأني، فالذوق الأدبي يشمل فئة كبيرة القراء في فترة معينة، فيتشاركون في القراءات، والاهتمامات، والتطلعات، ويرجحون بعض الأعمال الأدبية على غيرها في ضوء حاجات التلقي السائدة. وفيركور هو الاسم الحركي للمؤلف الذي ظل مجهولاً لمدة طويلة إلى أن تبين أنه رسام تنكر بهذا الاسم خوفاً من أن تبطش به قوى الاحتلال النازي، وقد خمن كثيرون قبل اكتشاف الحقيقة أن كاتب الرواية هو (أندريه مالرو) الروائي الفرنسي الشهير الذي أصبح في عهد (ديغول) وزيراً للثقافة، وربما انصرف الشك إليه لأنه سبق وخاض تجارب الحرب، سواء في الهند الصينية، أو في الحرب العالمية الثانية، حينما اجتاحت القوات الألمانية الأراضي الفرنسية، وانخرط هو وغيره من الكتاب الفرنسيين في مقاومة الاحتلال الألماني. لا تتأتى قيمة هذه الرواية الصغيرة الحجم، الكبيرة الأثر في نفس كل من قيض له أن يقرأها، من أنها صورت أحداثا حربية، كما جرت العادة في روايات الحرب، ولا المقاومة العنيفة المسلحة كما يقع عادة في تجارب المقاومة عبر التاريخ، فهي تخطت كل هذا وأهملته، ولم توله أي اهتمام، وعلى نقيض كل أدب الحرب الذي استغرقته الأحداث الحربية، تكمن قيمة هذه الرواية في أنها همشت أحداث الحرب، ولم تحتف بها على الإطلاق، وأعلت من القيمة النفسية للمقاومة كفعل مضاد لوقائع الحرب، فليس ثمة سلاح، ولا إطلاق نار، ولا مواجهات، ولا قتلى، ومع ذلك فالرواية تعد أرفع نماذج أدب المقاومة في العالم، لأنها تكشف عن الفعل الداخلي المقاوم للمسخ النسائي الذي هو نتيجة كل حرب أو احتلال إذا أزحنا جانباً الأيدلوجيات المصاحبة لها. تصور رواية (صمت البحر) حالة أسرة فرنسية صغيرة، من شخصين، هما شيخ وابنة أخيه، تعيش هذه الأسرة في مكان هادئ، لكنها فجأة يتغير نظام حياتها، حينما تجبر على استضافة أحد الضباط الألمان بعيد احتلال فرنسا، ويدعى «فرنر فون ايرناك»، وربما يكون من (الغستابو) وهو جهاز المخابرات النازي الشهير بالفظائع، والذي أثار الذعر في كل البلاد التي احتلها الألمان، لأنه كان يلتقط أفراد المقاومة في البلاد المحتلة، وينكّل بهم بقسوة بالغة، وما إن تجبر العائلة على استضافة الضابط الألماني، دون أن تكون لها القدرة على رفض الأمر، ولا مقاومة أمر المحتل الذي اقتحم البيت الهادئ، واستقر فيه بالقوة، إلا وتبتدع وسيلة خاصة بالمقاومة لم تسبق إليها، إذ تقاومه ب (الصمت)، وتقاطعه بالامتناع عن الكلام، فيصبح الصمت وسيلة مقاومة، وهي ممارسة لا تنبع عن ضعف إنما عن قوة معبرة عن رفض كامل للمحتل، ففي تصور هذه الأسرة يعتبر اللسان آلة الفعل والتواصل، وبالحيلولة دون استخدامه يتوقف أثر الآخر، وحينما يتعطل التواصل مع الآخر في أهم أشكاله، وهو الكلام، تخفق فكرة المحتل في جعل احتلاله أمراً حقيقياً، فالاحتلال يتحقق حينما تكون الأرض المحتلة فضاء يمارس فيه المحتل الحديث، والأفكار إنه يحتل المكان بلغته وثقافته، وكما عبرت (صمت البحر) يصبح النازي أسيرا لدى الأسرة الفرنسية التي تتبنى فلسفة الصمت لتعيق أي تواصل معه، بمعنى أنه يرتهن لصمتها الذي يعبر برفعة وسمو عن رفضه كاملا دون التمكن من طرده. يظهر الصمت الذي يوحي ليس بالنبذ فقط إنما بالاحتقار أيضا و(صمت البحر)، بهذه الفكرة المبتكرة لا تعطل أفعال المقاومة الأخرى، إنما تقترح بدائل مختلفة. عرضت الرواية فكرة الاحتجاج بالصمت بصورة بليغة استنادا إلى حكاية مبسطة، قليلة الشخصيات، ونادرة الأحداث، تمر بسلاسة دونما إثارة أو ضجيج، فبالعنف استبدلت تصويراً عميقاً لتنامي مشاعر الكره الداخلية للمحتل، وحبس كلامه في داخله كيلا يمتد إلى الخارج، وهي مشاعر تتعالى كتيار عارم غير مرئي يتصاعد في دواخل الشخصيات التي تتعمد إظهار الهدوء، لتجعل من تيار الرفض الكامن في نفوسها متدفقا بقوة ملفتة للاهتمام، الأمر الذي يطيح بكثير من مسلمات المكونات السردية لأحداث رواية الحرب وشخصياتها التي يفترض بأنها تعتمد على الملامح الخارجية للشخصيات، وللأفعال البطولية الكبيرة، وللأحداث الجسام، فالرواية تجنبت كل ذلك، واختارت سيلا من الحمم الداخلية المكبوتة التي خلخلت موقف المحتل، وأدت الى رحيله، إنها كناية عن أن المقاومة بالصمت، حينما تقتضي الظروف ذلك، ولا تقل أهمية عن المقاومة بالأفعال. صورت أعمال أدبية كثيرة الكوارث المرافقة للحروب، والاحتلال، وعنيت بتصوير النهايات التراجيدية للآمال التي انطوت عليها شخصياتها، وهي تدفع قسرا الحرب أو تفر منها، وأذكر في هذا السياق رواية (الدون الهادئ) لشولوخوف، إذ يجد البطل نفسه مدفوعاً بتيار الأحداث مرة إلى موقف، وآخر إلى موقف مناقض تماما، في تصوير رفيع للحرب الأهلية الروسية بعد الحرب العالمية الأولى، حينما استعر الاقتتال بين البيض والحمر، وأتذكر رواية (كل شيء هادئ في الجبهة الغربية)، لريمارك، حيث الوصول إلى صميم البعد الإنساني الذي هشّمته الحرب دونما رحمة، وأتذكر رواية (الساعة الخامسة والعشرون) لجورجيو، حيث التصوير الملحمي لرحلة الإنسان في متاهة لا نهائية من العذاب، بسبب العرق، والمعتقد، ثم رواية (دروب الحرية) لسارتر بأجزائها الثلاثة (سن الرشد، وقف التنفيذ، والحزن العميق) إذ تتلاطم المصائر المتوازية للشخصيات في حرب مريرة، لا تتخللها أية رحمة، وهذه عينة من أعمال روائية كبيرة استأثرت باهتمام آلاف القراء، وجرى استحضارها بقوة وسط مئات الأعمال الروائية التي تلاشت بتلاشي أحداث الحروب التي قامت بتصويرها وتبقى رائعة فيركور الأكثر ألقا، وتركيزا، واختصارا، بين تلك الأعمال الخالدة.