مايميز عصرنا الحالي عن غيره من العصور السابقة هو تلك الثورة العلمية الهائلة التي طالت آثارها جميع مناحي حياتنا من دون استثناء،حتى باتت حياتنا كلها تسير في نظام من الأتمتة، وكأننا بتنا مجرد اجهزة متحركة، وهذا النمط من الحياة بمقدار ما ساعد الانسان في قضاء اموره بيسر وسهولة، بمقدار ما ترك آثارا يرى البعض انها غير مريحة لاعتبارات انسانية بحتة، حيث يرى هؤلاء ان التطور العلمي وانتشار المكتشفات العلمية الحديثة جعلنا اسرى لهذه الاختراعات التي دخلت نسيج حياتنا بشكل كبير، ولا سيما في مجال الاتصالات والتكنلوجيا. وفي روايته الرائعة «الساعة الخامسة والعشرون» حذر الاديب والمفكر الروماني كونستانتان جيورجيو الحائز على ''جائزة نوبل في الآداب'' عام 1948 م من التداعيات الخطيرة التي يمكن أن تنتج عن التفوُّق العددي للآلات بالنسبة للبشر التي يستخدمونها·، وتنبأ بعصر مقبل يصبح فيه البشر كلهم مجرّد عبيد لبروليتاريا الآلات التي تتفوق عليهم عددياً، وقال على لسان مُصلح اجتماعي تقمّص شخصيته في الرواية وأطلق عليه اسم كوروغا: (لقد أشرف العالم على دخول ساعته الخامسة والعشرين؛، وهي التي لن تشرق الشمس من بعدها على الحضارة البشرية أبداً، والتي لن يحلّ بعدها يوم جديد، إنها الساعة التي سيتحول فيها البشر إلى أقلية بروليتارية عديمة القدرة على التفكير لا وظيفة لها غير إدارة جحافل الآلات وصيانتها وتنظيفها)! ولعل ما تنبأ به هذا المفكر الشهير، هو ما نعيشه في هذه الايام، حيث غزت التكنولوجيا مفاصل حياتنا وتسللت الى اصغر الشقوق فيها، حاملة معها جيشا من العمال الآليين، ومن هذه الابتكارات الهاتف الجوال " الموبايل" الذي بات مع تطور الحياة وتعقيداتها اقرب الينا من حبل الوريد، نعود ادراجنا الى البيت مسرعين إذا صدفة نسيناه في المنزل أو في السيارة وكأننا فقدنا ذاكرتنا كلها، ونصبح اشبه بالضائعين إذا فقدناه يوما،ولعل البعض لايستطيع حتى يركز أو كيف يرد السلام! فكل اعمالنا أو معظمها نستطيع متابعتها عبره، يصلنا بالعالم في أي لحظة ، مقربا لنا أبعد المسافات مهما كانت، لكن هذا المخترع الجميل والرائع والثمين، حمل معه ايضا بعض المتاعب والتداعيات التي تفرضها الحضارة ، حتى بات هذا المخترع اشبه بسلاح ذي حدين، فهو نعمة وجل نعمة عندما يستخدم بالطريقة المفيدة التي تسهل أمورنا، وتختزل المسافات بيننا وبين الآخرين، ويحسن استخدامه، إلا انه نقمة ومشكلة لا بل اكبر من ذلك عندما يستخدمه البعض في غير اتجاهه الصحيح، وقد يتساءل البعض عن سبب هذا الحديث، لكننا لن ندعهم يمعنون كثيراً في البحث عن الاجابة، حيث ان كلا منا لابد وان تعرض ذات يوم لموقف او حتى مشكلة حملها اليه عبر الاثير هاتفه الجوال، ففي الآونة الأخيرة كثرت الحوادث التي يستلم فيها الكثيرون مكالمات خارجية، معظمها مصدرها من افريقيا وعندما يحاول الاستفسار عن الرقم الذي يراه على شاشة جواله في قائمة المكالمات التي لم يرد عليها يكتشف انه يحادث جهة غير معروفة وانه وقع فريسة خدعة ، الهدف منها هو فقط سرقة نقوده من خلال فاتورة مكالمة خارجية قد تطول او تقصر لكنها لا تعنيه باي حال من الاحوال،ويكتشف انه يحادث جهاز تسجيل يرشده الى الخيارات المطلوبة بطريقة تهدف الى اطالة المكالمة الى ابعد قدر ممكن،من دون ان يجد من يتحدث اليه، أما إذا اسعفه الحظ ووجد مجيباً فإنه بالتأكيد سيرى نفسه أمام نصاب دولي محترف، يوهمك انك الشخص المقصود بالفعل وان الحظ بات حليفك ، لانك فزت في سحب لليانصيب، او ان هذا النصاب رأى رقم هاتفك في المنام ينقل اليك جميل البشرى ، وآيات السعادة، ولان مسافات تفصل بينك وبينه فلا بأس من اعطائه رقم بطاقتك الائتمانية ، او ترسل له مبلغاً بسيطا من المال ليستطيع إجراء اللازم لتحويل سيل الاموال التي فزت بها، وبين لحظة واخرى يرى بعض المغفلين انفسهم وقد غرقوا في وحل حسابات لا تنتهي، ماذا سيفعلون بالثروة التي هبطت عليهم فجأة ، كيف سيتعاملون مع الآخرين بعد هذه الثروة، ماذا سيشترون ، ما سيفعلون في المستقبل؟ اسئلة كثيرة تدور في رؤوس هؤلاء المغفلين قبل أن ينبلج الصباح ليجروا مسرعين نحو اقرب مركز لتحويل الاموال ، إن لم يكونوا قد ارسلو ا ارقام بطاقات ائتمانهم عبر الشبكة العنكبوتية الى هؤلاء النصابين المحترفين ، الذين على ما يبدو يعملون في إطار مافيا عالمية، منتشرة في أكثر من دولة في العالم. فمن دون أن يخسر هؤلاء النصّابون فلساً واحداً، حيث يعتمدون في طريقتهم، على إرسال رنّات و”مسجات” هاتفية، والتواصل مع ضحاياهم بوسائل إقناع متقنة في إيقاع البعض في المصيدة، حيث يوهمون ضحاياهم بالصدق عبر ذكر آيات من القرآن الكريم، وإعطائهم اسماء وجهات حكومية في أوطانهم، ليطمئن إليهم، ضحاياهم، فيقعون في شراكهم،ومضمون الرسائل التي يتلقاها الكثيرون ولا سيما في منطقة الخليج يبدو متطابقا، فالكثير من الخليجيين، أو المقيمين فيه يؤكدون انهم تعرضوا لمثل محاولات النصب هذه ، ويسرد الكثيرون كيف انهم كانوا سيقعون فريسة لعمليات الاحتيال هذه لولا أن حُسن تدبيرهم وتقديرهم للأمور حال دون ذلك والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو من المسؤول عن حماية الناس من هؤلاء المجرمين والنصابين المحتالين، خاصة وانهم يستخدمون ارقام هواتف يمكن الوصول اليها او متابعتهم من خلالها؟ هل هو الانتربول الدولي ؟ ام الجهات المعنية في الدول التي يقع مواطنوها فريسة لهذه المافيات العالمية،؟ صحيح ان القانون لا يحمي المغفلين وان على الناس ان يتنبهوا لمثل هذه الألاعيب الخبيثة، ولكن لماذا يترك هؤلاء الذين امتهنوا السرقة والاحتيال فضلا عن إزعاج الآخرين، طليقين يفتشون عن ضحايا جدد لعمليات الاحتيال التي يقومون بها؟ ثم ما هي الجهة التي يمكن ان تلجأ اليها الضحية اذا ما ارادت استرداد حقوقها؟ الى اخره من هذه الاسئلة المشروعة والتي باتت الاجابة عليها ضرورية وملحة في ظل استمرار عمليات الاحتيال والنصب هذه واتساع رقعتها بعدد تكاثر الأجهزة! * المدير الإقليمي لمكتب دبي