قدمتُ في المقالة الماضية تعريفاً بالشاعر الإيراني أحمد شاملو وعلقتُ بشكل عام على قصيدته "عند هذه النهاية المسدودة" مشيراً بشكل خاص إلى مطلع القصيدة، وأود هنا أن أقدم النص كاملاً مع بعض التعديل على ترجمتي للمطلع كما ظهرت في المقالة الماضية ومن ثم أعلق على النص بعد ترجمته كاملاً: يشمون فمك كي يعرفوا إن كنت قلت لأحد: (أحبك!) يشمون قلبك! إنه زمن العجائب يا عزيزي؛ يعاقبون الحب في الطرقات بالجلد. (علينا أن نخبئ حبنا في خزائن مظلمة). عند هذه النهاية الميتة القارسة الملتوية يبقون نارهم مشتعلة بأغانينا وقصائدنا؛ لا تعرض حياتك للهلاك بالأفكار! إنه زمن العجائب يا عزيزي! من يطرق بابك عند منتصف الليل مهمته أن يطفئ مصباحك! (علينا أن نخبئ أضواءنا في خزائن مظلمة!) أنظر! هاهم الجزارون مستعدون في الشوارع بسواطيرهم وألواح الفرم الملطخة بالدماء ياله من زمن عجيب يا عزيزي! يجتزون الابتسامات من الشفاه والأغاني من الحناجر! (علينا أن نخبئ عواطفنا في خزائن مظلمة!) إنهم يشوون طيور الكناري على نار الياسمين والليلك! ياله من زمن عجيب يا عزيزي! هو الشيطان، وقد أثمله النصر، يتلذذ بوليمة على طاولات صباحاتنا! (علينا أن نخبئ إلهنا في خزائن مظلمة!) لعل من الواضح أننا أمام نص تطغى عليه السخرية المرة، أو السخرية المأساوية، سخرية الألم، ومن هنا كان طبيعياً أن يمتلئ النص بالمفارقات التي تتحول إلى أداة بلاغية رئيسة وحادة لتوصيل السخرية. فإيقاد النار بالقصائد وشوي طيور الكناري واجتزاز الابتسامات، كل هذه تصب في اتجاه الهجاء الساخر والتعبير عن المأساة في الوقت نفسه. ولنلاحظ مثلاً كيف تحل الابتسامات محل الشفاه في عملية الاجتزاز، فهم لا يجتزون الشفاه، كما هو المنطق، وإنما الابتسامات لأنها من أحلى ما يمكن للشفاه أن تمنحه، وهؤلاء يجتزون ذلك الأحلى، تماماً مثلما يشوون طيور الغناء والقصائد. إننا نرى تضاداً بين معسكر الوحشية والجهل والظلم ومعسكر البراءة والجمال والإبداع، أو هكذا يريدنا الشاعر تصور المواجهة. لكن الشاعر لا يترك هجومه عند الحدود المتوقعة، أي عند التقسيم الذي تسير عليه القصيدة بجعل الشعر والغناء والإبداع من نصيب الشاعر ومعسكره في مقابل القسوة والجهل والظلم في الجانب الآخر، وإنما يتجاوز ذلك ليسلب من الخصم أهم ما يدعي امتلاكه وهو المعتقد الديني. ففي المقطع الأخير من القصيدة يوجه الشاعر ضربته الأقسى لخصومه بقلب الطاولة عليهم ووصفهم بحزب الشيطان في حين أنه هو الذي ينتمي إلى حزب الإله. فالمنتصر هو الخصم طبعاً، ولذلك فهو الشيطان، بينما يقف الإله في صف الشاعر الذي يضطر مع أصدقائه أو صديقه الذي يشير إليه بعزيزي إلى تخبئة معتقده في الخزائن، تماماً مثلما اضطرا من قبل إلى تخبئة الحب والأضواء والعواطف في تلك الخزائن. تلذذ الشيطان بتناول وليمته على "طاولات صباحاتنا" يذكرني بما يصوره محمود درويش في ديوانه (لماذا تركت الحصان وحيداً) حين يخاطب الغريب المحتل وقد جلس في بيت المهجرين من بيوتهم فتبلغ المفارقة الساخرة ذروتها بقوله: سلّم على بيتنا يا غريب. فناجين قهوتنا لا تزال على حالها. هل تشم أصابعنا فوقها؟ إنه الوضع المقلوب حين يفقد الناس حقوقهم وممتلكاتهم ويصبحون عرضة لنهب الغرباء الأعداء.