غريب أمر أمريكا فقد انتقلت قبل نصف قرن من حرمان السود من دخول مطاعم ومدارس البيض، أو السكن بجوارهم وفق مسلسل تاريخي للفصل العنصري، والذي أدانته مؤسسات الحقوق المدني وكل الشرائع حتى ان امريكا، ظلت بنظر مختلف دول العالم المتحرر أكبر حاضن لهذا الفصل البائس، وفي هذا العام تتجاوز بمسافات بعيدة كل العالم ليأتي شعبها العظيم منتخباً «باراك أوباما» ذا البشرة السمراء والخليط العرقي والديني من عدة أجناس وأب مسلم، ومع ذلك اعتبر كل العالم هذه الخطوة تاجاً على رأس كل أمريكي غسل عار العنصرية ليتجاوزها إلى أعلى مراحل حقوق الإنسان بخطوة لأن يرقى السلم الأعلى للبيت الأبيض هذا الزعيم المختلط الأرومة والدين.. يناقض ذلك كله امتناع الدولة العظمى وبرئاسة الرئيس الأسود مقاطعة مؤتمر الأممالمتحدة بشأن العنصرية دفاعا، كما تزعم عن «السامية» أو الخوف المبطّن من أن تدان عنصرية إسرائيل تجاه العرب والأقليات الدينية وممارساتها التي شهد العالم بهذه التعديات والتجاوزات، مع أن هذا التمنع يعتبر وثيقة اثبات تدينها، وإلا ما داعي الخوف لمؤتمر يذهب بأهدافه إلى إدانة أي تمييز أو نمط عنصري، بل أن أمريكا التي حملت شهادة براءتها من تاريخ الفصل العنصري تصل بمجاملتها لإسرائيل بأن تعدل وثائق المؤتمر بما يتطابق ورغبات إسرائيل، أو الامتناع عن الحضور، في وقت نجد دولاً مارست هذه الممارسات ويدينها تاريخها وسجلاتها السوداء، تحضر لتتحدث بأن ما جرى جزء من تاريخها لكنها تجاوزته، وندرك أن إسرائيل ليست فعلاً ماضياً تقادم عليه التاريخ، وإنما عنصريتها حاضرة في عصرنا الراهن. هنا نتساءل ما سر هذه الازدواجية في الممارسة والفعل، هل لأن إسرائيل فوق التساؤلات تحميها قوانين غير بشرية، أم أنها نقاء عرقي لا يطاله اللوم ولا الملاحقات الأخلاقية، أياً كانت جرائمها؟.. الحقيقة أن أمريكا لا تناقض نفسها، بل تبني أهدافها واستراتيجياتها مع إسرائيل بما يفوق أهمية حليفين أهم منها مثل ألمانيا واليابان في حال لو عقد مؤتمر يدين نازية الأولى، وفاشية الثانية، لأن الحرج هنا خارج مثل هذا التصرف، لكن مع إسرائيل هناك قنوات في مفصل اللحم والعظم الأمريكيين قادر أن يحرك الضمير المستتر، ليرفع راية الاتهام للبيت الأبيض والكونجرس وكل من له علاقة برسم السياسات واصدار القرارات، ولعل ثقل إسرائيل ومن ظل يعتقد أنها لعبة أمريكا، يجد أن خطوط الدفاع الحمراء مع أي إدانة لها أمر محيّر، حتى أن الدول الأوروبية وحتى الفاتيكان عندما يتحدث أحد عن المحرقة تستنفر المحاكم والقضاة والمحامين باسم العداء للسامية، وهي ضغوط تأتي من أمريكا وتترجم في كل دول العالم لمصلحة إسرائيل.