تبدو القضية الفلسطينية في وضع سيئ للغاية على جميع الأصعدة، فقد جرب الفلسطينيون انتفاضتين حتى الآن، الأولى (1987-1992) منحتهم اعترافا دوليا بمشروعية نضالهم من أجل تحقيق حلم الدولة، وقادت في نهاية المطاف إلى تنازل فلسطيني عن السلاح مقابل صفقة أوسلو. أما الانتفاضة الثانية (2000-2006) فأفقدتهم ذلك التضامن الدولي – بسبب عسكرتها -، ورغم أنها قادت إلى انسحاب أحادي من قطاع غزة إلا أنها تسببت في انقسام فلسطيني على تركة القطاع بعد ذلك وإلى غزو إسرائيلي عنيف نهاية العام الماضي. اليوم تتحدث بعض الفصائل الفلسطينية عن الحاجة إلى انتفاضة ثالثة. إن من المثير للانتباه أن كل محاولات الفلسطينيين المسلحة لاستعادة أرضهم باءت بخسائر أكبر، فلا اختطاف الطائرات أو العمليات "الفدائية" –كما كانت تسمى حينها- جاءت بنتيجة فترة السبعينيات، ولا عسكرة الانتفاضة واستخدام العمليات الانتحارية خلال التسعينيات أثمرا أي نتيجة لصالح القضية، ولكن المرة الوحيدة التي تمكن فيها الفلسطينيون من التحدث مباشرة إلى قلوب الملايين حول العالم هي اللحظة التي وقف فيها أطفال عزل بمواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية الرهيبة. حاليا، الفلسطينيون أمام الامتحان من جديد، هل ينتجون انتفاضة ثالثة سلمية (لا استخدام فيها للصواريخ أو العمليات الانتحارية)؟ أو يعيدون تكرار الانتفاضة الثانية مجددا؟ برأيي، أن الفلسطينيين بعد طول المعاناة بحاجة إلى انتفاضة ثالثة، سلمية وموجهة للداخل هذه المرة، بهدف إجبار قياداتهم السياسية والعسكرية على تحمل مسؤولية قراراتهم، وهذا سيقود بالضرورة تلك الجماعات والفصائل إلى تبني الوحدة الوطنية ومشروع الدولة كخيط رابط لما هو فلسطيني أولاً وأخيراً. لقد حصدت الانتفاضة الأولى قرابة 1100 فلسطيني، بينما فاقت خسائر الانتفاضة الثانية 4,800 ضحية حتى نهاية 2005. هذه الأرقام توضح أن عدد الضحايا لا يؤثر في الرأي العام الدولي، بقدر ما تؤثر الصورة التي يصنعها الفلسطينيون عن نضالهم ومطالبهم. هذا لا يعني أنه لم ترتكب في كلتا الانتفاضتين أخطاء، ولكنه يوضح مدى خطورة الاستخدام غير المسؤول للوسائل العسكرية أمام آلة عسكرية بحجم الجيش الإسرائيلي. لقد قال خالد مشعل إن حركته راهنت على أن سقوط المدنيين في غزة – لاسيما الأطفال والنساء - سيجبر المجتمع الدولي على التدخل لصالح حماس، ولكننا –وكما نرى اليوم- ندرك أن هذا الرهان لم يكن صائبا، فهاهي حماس تدخل أسبوعها الرابع منذ توقف العمليات الحربية الرئيسية في القطاع وهي تفاوض الإسرائيليين على مشروع التهدئة، بل إنه في الوقت الذي أعلن فيه مفاوضو حماس في القاهرة عن انتهاء المفاوضات، والاستعداد للإعلان عن هدنة تمتد لثمانية عشرا شهرا، فاجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت حماس بالقول إنه لا اتفاق تهدئة بدون إطلاق الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط. كما ترى، لا يبدو أن المقاومة عبر إطلاق الصواريخ أو العمليات الانتحارية قد غيرت من المعادلة كما يجادل دعاتها، فلا الفصائل الفلسطينية المسلحة تحصلت على اعتراف أكبر من عدوها، أو حققت أي تقدم في سبيل تحرير أراضيها، بل على العكس من ذلك، قطاع غزة الذي غادره الإسرائيليون من طرف واحد عادوا ليحتلوا أجزاء مهمة منه بعد ذلك بعامين تحت غطاء تلك العمليات الفلسطينية المسلحة، بل حصدت عسكرة الانتفاضة أرواح الفلسطينيين فيما بينهم نظرا لفرقة السلاح وانتشاره في الشوارع وبين الشباب، ولتحول جيل كامل من الفلسطينيين إلى العمل المسلح. وفي استطلاع للرأي نشره مركز القدس للاتصال والإعلام (31 يناير) فإن أقل من ثلث الفلسطينيين الذين شملهم الاستطلاع (28 بالمائة) يثقون بحماس ومستعدون لانتخابها في أي انتخبات رئاسية أو برلمانية قادمة. أيضاً، أقل من الثلث (26 بالمائة) يثقون بفتح ومستعدون لانتخاب ممثلي الحركة مستقبلا، بينما ما يزيد على 29 بالمائة لا يثقون بأي فصيل فلسطيني، أي أن ثلث الشعب الفلسطيني في الداخل ليس لديه ثقة في الحاضر أو المستقبل، وهي كارثة بكل المقاييس، إذ سعت أطراف فلسطينية وإقليمية لوأد مشروع أوسلو – وبالتالي مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة - فكانت النتيجة أن استقال ثلث الفلسطينيين من أي مشروع سياسي سواء كان مقاوما أو يرفع شعار السلام والمفاوضات. في الوقت الراهن تنادي بعض الأصوات الإقليمية بضرورة أن تقود أحداث غزة الأخيرة إلى وحدة فلسطينية، فمقتل 1300 وجرح قرابة 5 آلاف لا بد وأن يكون له ثمن داخلي أقله توحيد الصف الفلسطيني، وبينما أمهلت مصر الفصائل الفلسطينية 60 يوما لتشكيل حكومة وحدة وطنية، فإن الأخبار الواردة من دمشق لا تبشر بخير. قادة حماس مصرون على أن يحصلوا على ثمن داخلي لحربهم الأخيرة، ومع أن لهم الحق بالمطالبة بإعادة التفكير بمنظمة التحرير، إلا أن ذلك لا يعني اختطاف المنظمة وتحويلها لخدمة أطراف إقليمية تحت شعار المقاومة. المنظمة بكل إخفاقاتها ونجاحاتها لم يكن لها دور فاعل إلا حين استطاعت التوصل لموقف وحدوي نهاية الثمانينيات أوصلها عبر المفاوضات المباشرة إلى أن تطأ الأراضي الفلسطينية بعد توقيع أوسلو، ولكن قبل ذلك كانت نهبا للآخرين. المطالبة بإصلاح المنظمة ضروري، ولكن فتح الباب لسوريا أو إيران لتدخلا إلى تلك المنظمة هو إعادة للقضية الفلسطينية إلى عهد التبعية لهذا الطرف أو ذاك. بدون الاستقلال الفلسطيني داخليا، فإن لا أحد سيحقق للفلسطينيين حلمهم بالدولة بالنيابة عنهم. البعض يجادل أنه حتى ولو أجبرت الفصائل الفلسطينية على تشكيل حكومة وحدة وطنية الآن فإنه ليست هناك ضمانات لاستمرارها، وأن دروس فشل اتفاق القاهرة (2005) ومكة (2007) وإعلان صنعاء (2008) كلها دلائل على استحالة التصالح االفلسطيني داخليا، وأن رفض حماس وبعض الفصائل الفلسطينية حضور حوار الفصائل نوفمبر الماضي في القاهرة يثبت عدم الرغبة الداخلية في تنازل أي حركة للأخرى. ليس هناك شك في أن الكثيرين في المنطقة قد فقدوا ثقتهم بغالبية الفصائل الفلسطينية، بسبب فساد بعضها واستئثار بعضها الآخر بالسلطة والقوة. ولكن ما يمسك بالقضية بعضها البعض هو رغبة دول عربية عديدة استنقاذ ما يمكن انقاذه من مشروعية المؤسسات الفلسطينية، بحيث يمكن إنجاز مشروع الدولة مستقبلا بالتأسيس عليها. لأنه إذا ما فقدت مؤسسات السلطة مشروعيتها، وأصبح الرئيس غير شرعي بنظر بقية الفصائل الفلسطينية، وظل المجلس التشريعي مغلقا بسبب بقاء نواب حماس في السجون الإسرائيلية، فإن مشروع الدولة الفلسطينية برمته قد قضي عليه بالفشل. لقد وعد خالد مشعل في أحد خطاباته (13 أكتوبر 2006) بأن الدولة الفلسطينية ستتحق في 2010، أي أن أمامنا عاماً لحدوث ذلك، ولكن من يراقب الوضع الفلسطيني يدرك أن ذلك الوعد غير قابل للتطبيق. إنه تكرار مؤسف لذات الوعد الذي قدمه الرئيس الراحل أبو عمار في 1999 بتحقيق دولة فلسطينية في 2001، ومضت أعوام بعد ذلك دون أن نقترب من تلك النتيجة. لقد حان وقت الاختيار بين المسارين، فقد جرب الفلسطينيون من قبل، وعليهم الاختيار مجددا ما الذي يريدونه: مشروع دولة أم مشروع مقاومة بالنيابة لتحرير أراضي الآخرين ؟!