يقول النجم ليوناردو دي كابريو عن دوره في فيلمه الجديد (الطريق الثوري- Revolutionary Road) إنه يجسد معاناة الرجل في علاقته مع المرأة التي ترفض الاعتراف بالتضحيات التي يبذلها من أجل إنجاح العلاقة. جزئياً هذا الكلام صحيح.. لكن النظر في مسارات الفيلم الأخرى يكشف عن معنى أوسع من مجرد الحديث عن مشاكل زوجية، إنه يحكي قصة الإنسان الذي تلاشت أحلامه ورغباته تحت ضغط الواقع فأصبح إنساناً عادياً مثله مثل الملايين من البشر؛ يأكل ويشرب وينام ويذهب إلى عمله وهكذا حتى تأتي لحظة الموت فيغادر الدنيا دون أن يذوق طعم الحرية ودون أن يتنفسَ أشياء الطبيعة. الفيلم يطرح أسئلة مربكة عن "رغبة الحياة.. رغبة الانطلاق" المكبوتة في داخل الإنسان؛ هل تموت؟. هل نستطيع تناسيها والتشاغل عنها بملهيات الحياة اليومية؟. أم أنها مثل الدودة تنخر أجسادنا من الداخل ولا تتركنا إلا ونحن محطمون نفسياً وجسدياً؟. يضع الفيلم أسئلته هذه في قالب حكاية بسيطة بطلاها الزوجان "فرانك.. وأبريل ويلر" اللذان يبدوان للجميع زوجين سعيدين لديهما طفلان جميلان ولا ينقصهما شيء البتة وهما مثال للتميز والتألق في نظر الجيران. وتميّزُ هذين الشابين يتأكد من المشهد الافتتاحي للفيلم الذي يصور لقاءهما الأول في حفلة راقصة، ففي لحظة تعارفهما الأولى يصف "فرانك" نفسه بالملاّح كناية عن رغبته في الاستمتاع بالحياة وعدم التقيد بمكان، إنه حر ويريد أن يبقى حراً للأبد، أما صديقته الجديدة "أبريل" فتحلم بأن تصبح ممثلة شهيرة؛ تعُبّ من تيار الحياة حتى تروى. إنهما صورة متألقة للشباب الكامل في صحته وروحه والذي يتطلع دائماً إلى الأمام ولا يردعه عن تحقيقِ أحلامهِ رادع.. لكن إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يحتفظ بتألق هذه الرغبة؟. المشهد الثاني من الفيلم يعطينا الجواب مباشرة: الأحلام لن تدوم طويلاً.. والرغبات ستظل مكبوتة إلى أن نموت.. ثم لا شيء. يؤدي النجمان ليوناردو دي كابريو وكيت وينسلت في هذا الفيلم دور الزوجين "ويلر" في ثاني لقاء سينمائي لهما بعد لقائهما الشهير في فيلم (تايتانيك-Titanic). وبالطبع هناك فارق بين اللقاءين، ففي (تايتانيك) أخذت مأساة السفينة كل الحيز وطغت على أداء الممثلين، أما في (الطريق الثوري) فقد استحوذ دي كابريو ووينسلت على الشاشة تماماً بأداء استثنائي يتوّج مسيرتهما المتميزة خلال العشر سنوات الماضية. وبالذات المبدعة "كيت وينسلت" التي وقع عليها ضغط الفيلم بالكامل لأنها تؤدي الشخصية المتقلبة في الفيلم، شخصية الزوجة "أبريل" التي تحولت إلى زوجة عادية تطبخ وتكوي وتنظف وتربي الأطفال ببرود وتلقائية، في حين تسكنها رغبة عارمة بالسفر إلى باريس؛ عاصمة الفن والحرية والجمال. كيت وينسلت ظهرت قبل سنتين في فيلم (أطفال صغار-Little Children) وأدت فيه دور امرأة متزوجة متخصصة في نقد الأدب ومفتونة جداً برواية "مدام بوفاري" وقد بلغت شدة إعجابها بالسيدة بوفاري أن قامت فعلاً بتطبيق ما جاء في الرواية متجاوزة كل المحاذير في سبيل تحقيق رغباتها، إنها امرأة شجاعة استطاعت كسر كل الحواجز. أما شخصيتها في (الطريق الثوري) فهي على النقيض تماماً، شخصية امرأة مخنوقة رضخت لقيود المجتمع ولشروط الحياة الزوجية وما يتبعها من تربية للأبناء دون أن تمتلك القدرة على الثورة والهرب بعيداً.. نحو أحلامها. تقول كيت وينسلت على لسان الزوجة أبريل في أحد مشاهد الفيلم: "إن الحقيقة مؤلمة.. يا فرانك.. لا نستطيع تجاهلها.. إنها موجودة ولن يمحوها خداعنا لأنفسنا". والشيء الحقيقي بالنسبة ل"أبريل" هي رغبتها بالسفر بعيداً عن حياتها الرتيبة، إنها رغبة حارقة لن تنطفئ إلا بعد أن تُرويها فعلاً، وبسبب هذه الرغبة ينشأ الصدام بينها وبين زوجها الذي لا يشاركها الحماس في التخلي عن كل شيء والتوجه إلى باريس. وتبلغ سخرية القدر مع "أبريل" حداً لا يوصف، إذ في اللحظة التي اقتنع فيها الزوج بفكرة السفر، يحصل طارئ ما، يعيده إلى خانة التردد، وكأن الحياة تريد أن تعبث بأحلام الزوجة المسكينة وأن تكبلها بالواقع أكثر فأكثر. وعلى هذا المنوال يستمر الفيلم في شد وجذب بين الزوج وزوجته، في صراع حادٍ تضخمت فيه مدينة باريس إلى أن أصبحت معنىً مجازياً ل"الأحلام"، لقد أصبحت هي الحلم الذي استحوذ على عقل "أبريل"، لكن.. إذا قلنا بأن "الرغبة" التي استحوذت عليها كانت مدفونة في عقلها منذ سنواتِ ما قبل الزواج، وبأن باريس، المدينة، موجودة منذ الأزل، فما الذي فجّر هذه الرغبة الآن تحديداً وجعلها تتحول من مرحلة الكمون إلى البروز؟. ما هو الدافع الذي حرّك خيال الزوجة وزاد من لهيب رغبتها؟. تقدم لنا مشاهد البداية وصفاً لحياة "أبريل" قبل انفجار الرغبة، وكما قلنا من قبل، فهي تعرفت على فرانك في حفلة، ثم تزوجته، وأنجبت منه طفلين، وها هي الآن مشغولة بتربية أبنائها، وبتدبير منزلها، تطبخ وتنفخ كأي زوجة تقليدية، والابتسامة المشرقة تطبع وجهها، إنها تبدو سعيدة ولا شيء يكدر صفو حياتها.. إلا أن زيارة عادية من جارتها السيدة "هيلين" -تؤدي دورها كاثي بيتس- تفجر ما كان مدفوناً في الأعماق، لقد قالت الجارة العجوز ثلاث كلمات فقط: "أبريل.. أنتِ مميزة". وبفعل هذه الكلمات البسيطة تتذكر "أبريل" رغبتها بالتفرد والتميز ولهفتها القديمة لعيش حياة مختلفة عن بقية البشر؛ فتنقلب حياتها رأساً على عقب. وهنا نحن نتحدث عن سيناريو دقيق يحسب حساباً لكل كلمة وهمسة ونظرة تنبعث من الشخصيات، وقد تجلت براعة كاتب السيناريو "جستن هيث" في تطويعه لكل شيء في الفيلم للضغط على شخصية "أبريل" تمهيداً للنهاية العظيمة التي تنتهي بها أحداث القصة. أما المخرج المميز "سام ميندس"، وهو زوج "كيت وينسلت" في الحقيقة، وصانع الفيلم الرائع (الجمال الأمريكي-American Beauty) عام 1999، فيقدم في (الطريق الثوري) سينما أصيلة، تسير وفق طريقة البناء الكلاسيكية، حيث لا عودة للماضي، ولا تعقيد في مجرى الزمن، والحدث يمشي بتلقائية متجهاً نحو الأمام دائماً في تصاعد محموم نحو الذروة. والجميل هنا، أن "ميندس" قد صور مشاهده بنفس ترتيبها الذي ظهرت به في الفيلم، أي أنه صور البداية، ثم انتقل إلى المشاهد التالية، بنفس التتابع، حتى وصل للنهاية، وذلك عكس الطريقة الوحيدة التي يعمل بها كل مخرجي العالم، وهي أن يصوروا مشاهد كل موقعٍ على حدة. هذه الطريقة حافظت على مشاعر الشخصيات من التشتت، وجعلتها -كما المسرح- تتصاعد بشكل طبيعي دون قطع، ولعل هذا سبب طغيان عنصر الأداء في الفيلم، وتميزه على بقية العناصر، ولعله أيضاً سبب تميز "كيت وينسلت" في مشهدها الختامي، العظيم، الذي ظهرت فيه ببرود مُربك، غريب، هو برود "اليقين" والتسليم بأن هذا هو قدرها المحتوم، وبأنها لن تبلغ حاجتها حتى لو سبحت في بركة من الدماء..