عودت صحيفة "الرياض" وعودتني أن أنشر مقالاً حولياً أرصد فيه أبرز المظاهر الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مر بها عالمنا اليوم من وجهة نظر شخصية قد تصيب الحقيقة - والحقيقة المطلقة لا يعلمها إلا الله - وقد لا تصيب. 1) تبادل أقوام عبارات التجهيل والتسطيح عبر مقالات صحفية ومداخلات سمعية وبصرية بل بلغ الأمر بهم إلى اشتباكات متواصلة ومتقطعة داخل صالات الندوات والمؤتمرات!! وكان يمكن حل الإشكال الفقهي أو العقدي برده إلى هيئة كبار العلماء التي عليها أن تبادر في إبداء الرأي حول قضية ما قبل أن تستفحل الآراء الشاذة من مدعي الإفتاء. ولو أن كل من تفوه بكلمة أو كتب مقالاً سأل نفسه: لماذا فعل هذا؟ وفي سبيل من؟ ولمصلحة من؟ وهل يناسب ذلك الزمان والمقام؟ لما أقدم على مغامرة قد يكابر فيركب موجاً يغرقه والناس حوله يصفقون ويرشقونه بألقاب البطولة والجرأة والتجديد والإبداع فيغرق ويغرق حتي يتوارى في قاع الجهل المركب. إن يعربيا يجامل على سبيل مبدئه ووطنه وقومه غير جدير بالاحترام من قبل أولئك الذين نافقهم وتلهف إلى ثنائهم واستزاره منهم فيبوء بإثمه ويسقط في وحل التسول على أبواب السفارات حاملاً ما يثبت "تحرره" من عقده وعهده الوطني. لو غلبنا مصلحة ديننا ووطننا على المصالح الشخصية من مادية وشهرة وثأر وحقد لأضحت نقاشاتنا سليمة من أذى الأحكام الجاهزة، والتصنيفات الجائرة، ولخرج المتابع بفائدة منطقية في جو من الحوار الحضاري. 2) أبارك نهضة الجامعات السعودية من كبوتها، وأثني على جهودها في سبيل الرقي الأكاديمي والإبداع العلمي والتنافس في اصطياد الكراسي. كل ذلك جميل إذا كان دافع ذلك شأناً وطنياً وعلمياً وليس مرضاة لمركز في إسبانيا يقيِّم الجامعات ويرتبها وهو نفسه غير مؤهل داخل بلده ولم تأبه به الجامعات الأوروبية والأمريكية، بل لم يتوقع ردود فعل الجامعات العربية التي دخلت في دوامة نفي التهمة لأننا "جدار قصير" نحسب كل صيحة علينا، فصرفنا الملايين لتحسين صورة جامعاتنا في الداخل والخارج واستقدمنا عقولاً أجنبية لم تتعود أن تبارك معاملها فألفت نفسها في ضيافة عربية حاتمية دون مشروع مشترك أو محاضرات مجدولة فتعود كما جاءت مكتفين منها بشهادة أننا اجتزنا التصنيف الإسباني. أما الكراسي فأرجو أن لا تتحول إلى مسرحية يتكرر عرضها ولا يتغير أبطالها وأخشى ما أخشاه أن تصير هذه الكراسي أرائك يتربع عليها أساتذة غابوا عن طلابهم في قاعاتهم، وعن الباحثين في رسائلهم فنلجأ إلى التعاقد وكأننا عدنا كما بدأنا. أما الجمعيات العلمية فظاهرة طيبة إذا لم تتحول إلى مراكز جباية وشللية ومجالس إدارة يتبادلون المناصب ولا يتغيرون. إن لأعجب من غرف صغيرة يديرها أساتذة في الغرب بجهودهم الذاتية ويصدرون مجلات علمية رصينة ذات صيت علمي وسمت تحكيمي. المسألة يا سادة عطاء لا أخذ وشعور لا شعارات، نحن بحاجة إلى "روح الفريق الواحد" لنخرج طلاباً يتحملون عبء المجتمع لا أن يكونوا عالة عليه، وباحثين يثرون العقل والفكر بأعمال مبتكرة لا مستنسخة مما صنعه الأوائل، ومقالات رصينة تكون مراجع في بابها لا مقالات جاهزة وسريعة. 3) أشعر بغبطة ولا أقول حسد عندما أرى تلاميذ المدارس الأجنبية - على مرأى منا - وقد اصطفوا في صفوف داخلين أو خارجين من دارسهم أو راكبين في حافلاتهم بينما لم نستطع عبر قرن أن ننظم دخول طلابنا وخروجهم بل عجزنا أن ننظم صفوف سيارات المدرسين. هل الخلل في تعليمنا أم في معلمينا أم في المجتمع بأكمله؟ أنظروا إلى ما يجري في مساجدنا: فوضى عند الخروج، سيارات متكدسة تسد الأبواب، نغمات الجوالات تذهب بالخشوع - إن وجد - إن المسجد أيها القوم لا يزاول دوره الاجتماعي كما ينبغي ووزارة الشؤون الإسلامية لم تقعد شيئاً: لدينا مئات الألوف من المساجد، وكل مسجد له مؤذن وإمام وعامل نظافة وربما يجهل الإمام ما يدور في حي المسجد!! آن الأوان لإعادة النظر في ترسيم المؤذنين والأئمة بحيث يصبح هؤلاء موظفين لهم حقوق وعليهم واجبات ويفرغون للمساجد والنصح والإرشاد والتوعية وتحفيظ القرآن وخدمة المجتمع ويحسب ذلك نقاطاً داخلة في تصنيفهم وترقياتهم. إذا نجحت وزارة التربية والتعليم في تحويل مدارسها إلى مراكز تدريب وتطبيق على التزام النظام في الخروج والدخول فستنجح في ما ترمي إليه من غايات سامية. وإذا ركز الخطباء في جوامعهم على ما يرقى بسلوك الفرد وتحدث كل خطيب عن مشكلات محيطه والحلول الناجعة لها. وإذا زاول إمام المسجد نشاطه في محيطه فإن ذلك مؤشر أخضر نحو رقي المجتمع وتكافله وتضامنه. 4) مثلما قيل عن طيب الذكر "منقاش" من قصائد تمجد بطولته بإسقاطه طائرة أباتشي ببندقيته "أم حبة". ها نحن نعود إلى "حذاء الزيدي" الذي سدده في مرمى بوش!! صحفي ساءه وضع بلاده وقهره تبريرات الرئيس المنتهية صلاحيته حول قراره المتهور غزو العراق ولم يجد أسلوباً غير "لغة الحذاء" المضحك والمبكي في آن أن من أعلن استعداده لشراء نعليه بملايين الدولارات لم يسهم بدولار واحد في رصف طريق أو إنارة قرية أو فتح مدرسة أو بناء مشفى. وأن قوماً زغردوا لقتل عميدهم في يوم عيدهم لجديرون بنسيان ألف منتظر ومنتظر. نحن يا قوم عاطفيون في تعاطينا مع الأحداث بسبك العبارات والقصائد ولا غرو أن يكون عدد شعراء العرب أكثر من شعب إسرائيل في فلسطين والشتات. إذا كان الحذاء قد وحد العرب فأرجو أن تتوحد العقول أو على الأقل آمل أن نحب بعضنا أو على الأقل لا نكره بعضنا. أرجو أن تعي الصحافة العربية دورها في تقريب الشعب العربي وشيوع المحبة والتقدير بدلاً من تحويل الصحافة إلى ساحة للتخوين والتدخل في أحكام قضائية صدرت في بلد عربي ضد مجرمين وحيثيات الجريمة واضحة جلية. 5) جميل أن نرى الجمل وقد استرد حقه من الحفاوة والتكريم بمثل ما استقبل به الحصان الأصيل. ورائع أن تشاهد الأجيال أصحاب المجاهيم والمغاتير وهم يسوقون إبلهم - بكل فخر - أمام الملأ. ومبهج أن تتحول المنافسة إلى مناسبة دعوية وأدبية وبيع وشراء. لكن غير المستساغ أن يتحول رماد القبلية إلى وميض نار تحرق خيمة الوطنية ويكاد سناها يخطف بصر الانتماء. وأعتقد أن التوجه الأخير كان صائباً بحصر "المزاين" في أم رقيبة ليصطبغ الاحتفاء بالصبغة الوحدوية الشاملة. ولكن المؤسف أن يتحول الشاب المثقف إلى بوق قبلي يمجد حروب داحس والغبراء ويمدح رموز قبيلته ويقدح بالآخرين. ومن المخجل - أيضاً أن تخترق العلم الأخضر ثقوب المواقع القبلية التي تذكرنا بمضارب القبائل أيام الشتات. لست ضد الفخر بالأسرة أو القبيلة في إطارها الاجتماعي ولكني أنادي بأن يكون الوطن فوق كل اعتبار وأن لا تخبو جذوته داخل النفوس. لا أرفض "شجيرات النسب" التي تبدأ من جد القبيلة أو الأسرة ولكن يجب أن تثمر هذه الشجيرات صلة رحم وتعاون على البر والتقوى وأن ينشأ صندوق للتضامن وفق آلية تضعها وزارة الشؤون الاجتماعية. 6) مني العالم بنكسة اقتصادية بدأت في أمريكا وأثرت على العالم أجمع نتيجة سياسة هيمنة القطب الواحد والقرار الواحد وأخذت كل أمة تلوم أختها والخطأ خطأ الجميع!! الاقتصاد لا ينتعش إلا إذا حرر من التبعية السياسية والحزبية والتكتلات المتناحرة. الاقتصاد لا ينمو إلا إذا ربح البائع والمشتري والمنتج والمستهلك، أما تربص كل طرف بالآخر فلا بد من ضحايا وجلهم من الطبقات الفقيرة التي قض مضاجعها الرهن العقاري وأرهقتها الضرائب ويئست من وعود المرشحين. لقد أدرك العالم أجمع أهمية "الاقتصاد الإسلامي" الذي يقوم على التعاملات المالية الخالية من الفوائد الربوية. وإنني أتساءل: من منا تريث قبل أن يدخل سوق الأسهم وسأل نفسه هل الربح بضغط زر وأنا أرتشف كوباً من شاي أخضر أكثر بركة من شراء عقار أو بيع وشراء يستلزم مني التبصر والاستخارة والرضا واستلام أو تسليم وثائق البيع "الحركة بركة". من منا سأل نفسه عن الدافع في دخول مساهمة ما ضمن صاحبها ربحاً يصل إلى 100% فسال لعاب المساهم وإن كانت الأرض خارج نطاق الواقع فضاع المال وغاب اللص أو استخرج "صك إعسار وعاد إلى الدار". إننا نلوم أنفسنا إذ جرنا الطمع إلى بيع منازلنا وحلي نسائنا ولم يجبرنا أحد على سوق الأسهم وأتون المساهمات "الطمع أذهب ما جمع". @ أستاذ العلاقات الحضارية - أستاذ الدراسات العليا كلية العلوم الاجتماعية، قسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام