لم يكن الصحفي العراقي "منتظر الزيدي"، وهو يرمي حذاءه باتجاه منصة الخطابة في المنطقة الخضراء ببغداد،متحرفاً لمناكفة مستبد، أو متحيزاً إلى فئة المظلومين والمنتهكة حقوقهم في العراق، بقدر ما كان يبحث عن وميض شهرة يعرف أنه لن ينل منها ما لم يضرب على وتر العاطفة الشعبوية،عربياً وإسلاميا. هذه ليست قراءة استبطانية لما في النيات، بقدر ما هي قراءة استنباطية من معادلة الأوْلى والأبعد.وهي معادلة تستخرج النتيجة المترتبة على الموقف من الأبعد، قياسا بالموقف نفسه من الأوءلى. عندما نستخدم تلك المعادلة لتحديد مرامي ذلك الصحفي العراقي من رميه حذاءه باتجاه الرئيس الأمريكي، فسنجد أن الأوءلى لمن سيتحرف لمناهضة الظلم والظالمين هناك، أن يبدأ بالبراءة ممن يمتهن قتل وسحل المواطن العراقي على الهوية فقط، من الجماعات الجهادية والميليشيات الطائفية، قبل أن يتبرأ من المحتل الأجنبي (الأبعد). ومنتظرٌ هذا لم يفعل الأوءلى قَبءلاً. ومن ثم،فإن حرقه لمراحل البراءة وصولاً إلى الأبعد (البراءة من الأمريكان)، تظل محكومة بموقفه من الأوءلى، مما يصعب من قبولها، منطقياً، لأن تحسب في خانة استنكار الاحتلال الأمريكي. ليست المشكلة هنا في قيام فرد أو حتى مجموعة، من هذا الفصيل العربي أو ذاك، بحثوا وجه زائرغربي، حتى لو كان رئيس أقوى دولة في العالم، بالأحذية أو بما هو أسوأ منها. فالرئيس الأمريكي نفسه تعرض ويتعرض داخل الولاياتالمتحدة نفسها لمواقف احتجاج، تفوق، في وسيلة التعبير عنها، ما فعله ذلك الصحفي العراقي. وكان آخرها ما قامت به مجموعة من المحتجين الأمريكان على سياساته، باصطناع دمية له ونصبها أمام حديقة البيت الأبيض وضربها بكل ما جادت به أيديهم وأرجلهم. لقد اعتاد الزعماء الغربيون أن يُرشقوا من مواطنيهم بالطماطم والبيض الفاسد المنتن الرائحة، حتى ليكاد الواحد منهم أن يقع مغشياً عليه جراء حشرجة أنفاسه من (نتن) ما يُرمى به. المشكلة، فيما فعله الصحفي العراقي، لا تكمن في الفعل نفسه، بقدر ما تكمن في دوافع الفعل نفسها، سواء لديه هو كفاعل فردي، أو لدى جوقة الطبالين والمنشدين والزاعقين الذين خطف أبصارهم منظر الأحذية وهي تنهال على الرئيس الأمريكي، مقابل ردة الفعل غير المكترثة بالحدث من قبل الرئيس نفسه، مما جعل الجوقة تظنه إذعاناً واعترافاً بمؤشر "انتصار" ظل الهاجس العروبي مسكونا بمثله، حتى ولو كان في مشهد تمثيلي من مراهق يحلم بشهرة ظلت تلاحقه حد الثمالة!!. ليس ثمة خلاف حول عربدة الإدارة الأمريكية الحالية المسكونة بأحلام المحافظين الجدد. كما لا خلاف حول ما خلفته من نتائج ممعنة في الالتفاف على الرسالة الإنسانية للآباء المؤسسين للولايات المتحدةالأمريكية. لكن الخلاف يظل حول ردة الفعل المنتشية ظاهرياً، والمنكسرة حتى البكاء باطنيا، على تاريخ، عروبوي إسلاموي، مليء بالانكسارات،المعنوية منها والمادية، أمام آخر محلق بفضاء الحداثة. آخر يتميز باستصحاب إنجازاته الحاضرة كمقوم لوجود لأنا، بعيداً عن عنترية الشعارات ذات الوسم العروبي الممسك بحبال طوق نجاة موهوم ممتد نحو ماض لن يعود، بغض النظر عن الماهية التي كان عليها، حقيقية كانت، أو ملبسة إياه قسرا!. مشهد أحذية منتظر وهي تطير باتجاه منصة الخطابة التي يجلس عليها الرئيس الأمريكي ومعه رئيس الوزراء العراقي، أعاد ذاكرتي جذعة إلى مشهد آخر يصلح لمقارنة ما صاحبه من ردة فعل عروبية مع ما صاحب مشهد أحذية منتظر الطائرة، من ردة فعل عروبية أخرى. ذلك المشهد هو: مشهد إعدام صهري صدام حسين: حسين كامل المجيد وشقيقه صدام كامل المجيد زوجي ابنتي صدام، "رغد ورنا"، الذين هربا إلى الأردن في أغسطس عام 1995م، وانتقدا من هناك سياسات الرئيس حامي حمى البوابة الشرقية للوطن العربي!. لكنهما ما لبثا أن قتلا مع شقيق لهما آخر في فبراير شباط 1996م بعد عودتهما الطوعية إلى العراق بناءً على وعد من صدام بالعفو عنهما!!. ذانك المشهدان متشابهان، فكلاهما،نظريا، احتجاج على ظلم وطغيان. لكن ردة الفعل العروبية والإسلاموية كانت مختلفة الاتجاه في سياق المشهدين. في سياق مشهد إعدام صهري صدام، كانت ردة الفعل القوموية والإسلاموية مؤيدة لإعدامهما، ومهللة ل "الرئيس المهيب" على مجازاته صهريه جزاء "خيانتيهما" للأيديولوجية القومية التي كان يمثلها "الرئيس القائد" آنذاك. أما في سياق مشهد منتظر وأحذيته فقد جاءت الاحتفالات والزغاريد المصاحبة له بمثابة صك تأييد حاشد لسلوك سيكولوجي ممعن في تسجيل موقف فردي يريد منه صاحبه إقحام نفسه في محيط الشهرة بأي وسيلة كانت، بدليل أن الفعل لم يستطع تجاوز حاجز منطق الأوءلى والأبعد كما رأينا آنفا، لكن ردة الفعل الآنية تجاهه حولته باتجاه إعادة الاعتبار للأنا المجروحة في أعز مشاهد نرجسيتها. السؤال هنا: لماذا اختلف اتجاه ردة فعل العروبي تجاه مشهدين متشابهين؟. لماذا جاءت ردة الفعل في المشهد الأول، مشهد إعدام الصهرين، على هيئة انتصار للقمة ضد القاعدة، بينما جاءت ردة الفعل في المشهد الثاني على هيئة انتصار للقاعدة ضد القمة إذا جاز التعبير؟. بتساؤل مجازي آخر، لماذا كانت ردة الفعل في المشهد الأول انتصاراً للظالم ضد المظلوم، بينما كانت في الثاني انتصاراً للمظلوم ضد الظالم؟. الجواب على هذا السؤال يكمن فيما هو مضمر أو مسكوت عنه خلف كل تلك الاهتياجات، مع أو ضد، التي تكتسي يافطاتها الخارجية لباس "مكافحة" الظلم ومناكفة الاستبداد. المضمر والمسكوت عنه هنا يكمن في الأيديولوجية القبلية، على اختلاف تشكلاتها، والتي تختفي وراءها كل تلك الاهتياجات، والتي تظل، في عرف النزوع القبلي، (لا أقصد هنا القبيلة بمعناها المباشر)، هي الغاية، وما الإنسان إلا وسيلة من وسائل عديدة مستباحة لتحقيقها. هذه الأيديولوجية "تتميز" بأنها تختزل فردية الإنسان في بنية القبيلة على اختلاف تمظهراتها التاريخية، عرقية أو طائفية أو دينية. لو كان الإنسان هو الغاية التي يُضحى بالأيديولوجيات من أجلها لأقضَّ مضجع أولئك المطبلين للحذاء/ الرمز ما تفعله الجماعات الجهادية العراق من قتل وتشريد فاقت بشاعته بشاعة أكثر الهمجيات العبثية في التاريخ. في المشهد الأول كان صدام حسين يمثل رمز القبيلة القومية ضد الآخر الفارسي آنذاك، فكان نصره إذ ذاك "واجبا" على أفراد القبيلة القومية بغض النظر عمن يقع عليهم تبعات ظلمه، فكلهم، في سياق أيديولوجية القبيلة القومية آنذاك،ليسوا أكثر من بيادق على رقعة شطرنج!. أما في المشهد الثاني، مشهد أحذية منتظر، فقد كان الحذاء رمزاً للقبيلة القومية/ الإسلاموية في عدائها ضد الآخر الغربي، فكان لا بد من نصره هو الآخر بعد الاحتفاء به. وهو منطق يمتح من المنطق الجاهلي القديم:"انصر أخاك ظالماً أو مظلوما"، نصرٌ يتوسل الفزعة والنصرة للأخ القومي/ الطائفي/ العرقي حتى وهو يعتدي على الآخر الذي تتحدد آخريته بالنسبة للأنا حسب اتجاه الأنا نفسها في زمن، وربما في مكان،معين. وعندما جاء الإسلام العظيم حور مفهوم ذلك المنطق الجاهلي بأن شدد على منع وحجز الظالم من أن يعتدي على الآخرين، كتفسير وحيد لمعنى نصرة الظالم. فكان ذلك التحوير ثورة غير مسبوقة قلبت معادلة علاقة الفرد بالقبيلة رأساً على عقب، بإعادتها الاعتبار للفرد بجعله الغاية وما سواه، بما فيها القبيلة بكافة تشكلاتها، إلا وسائل لتحقيق واجب استخلاف الله تعالى له على الأرض. لكن لم يكد العقد الرابع من الهجرة النبوية يبدأ حتى أعاد الأمويون تلك المعادلة الجاهلية جذعة في الحياة الإسلامية برفعهم المصحف الشريف على أسنة الرماح فيما عرف بحادثة التحكيم. أما الجاهلية المعاصرة فلم تكتف بتغييب التحوير الإسلامي للمنطق الجاهلي القديم بل استبدلته بمنطق:"انصر أخاك في العِرق أو الطائفة ضد الآخر ظالما أو مظلوما"!. في كلا المشهدين اللذين يختصران المنطق العربي في التعامل مع الآخر، لا ملمح أكثر وضوحاً من غياب الإنسان عن معادلة قراءة أحداث ومنجزات العصر. وهو غياب مشهود في الحياة العربية منذ أن غرد الشاعر (قريط بن أنيف) مفتخراً ببني مازن بأنهم: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا ومستخفاً بقومه الذين لا ينصرون أخاهم ظالماً أو مظوما على الطريقة الجاهلية بقوله: لكن قومي إن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا لا مناص من الاعتراف بأن الزمن العربي متجمد في مرابع عبس وذبيان وفي مشاهد داحس والغبراء. ولا خلاص من هذه الأزمة إلا بإعادة تبيئة التحوير الإسلامي لمعنى نصرة الظالم والمظلوم.عندها سيعود الإنسان حتما ليكون هو الغاية اللانهائية في مسيرة الخلافة الإنسانية على الأرض. وعند ذلك فقط سيتساوى صدام مع بوش كما يتساوون بدورهم مع الحجاج والحسن بن الصباح. والعامل المشترك بينهم يظل: وأد كرامة الإنسان واغتصاب حياته.