لابد أن نعترف أننا نمر بمأزق فكري لانعرف كيف نخرج منه ولعل هذا المأزق يذكرنا بما حدث في تاريخنا العربي/الإسلامي خلال القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر (الميلادية) عندما بدأ الحوار الفكري العربي/اليوناني بالفارابي وابن سينا ثم بعد ذلك بأبي حامد الغزالي (القرن الحادي عشر) وأخيرا بابن الرشد فقد شكل هذا الحوار (الذي انتهى بكتاب (تهافت الفلاسفة) للغزالي و(تهافت التهافت) لابن الرشد) بيئة فكرية بينت المأزق الذي تعاني منه الثقافة العربية الإسلامية بشكل عام التي عادة ما ترفض الدخيل ولا تنفتح على الغريب بسهولة وتعتبره خطرا مدمرا يجب الوقاية منه. ماحدث قبل ألف عام يرى البعض أنه يحدث الآن فقد بدأ الصراع الفكري الذي صاحبه أسئلة كبرى حول علاقتنا بالغرب المعاصر منذ مطلع القرن التاسع عشر ومازالت الأسئلة هي هي لم تتغير فالشك في الآخر ونبذه وعدم الرغبة في الانفتاح عليه مازالت هي السمات التي تميز ثقافتنا وكأننا نعيد التاريخ بحذافيره. ويبدو أنه كتب علينا أن نكرر قول المتنبي (عيد بأي حال عدت ياعيد...بما مضى أم لأمر فيه تجديد)، فأيام العيد تلح على الانسان بفكرة التجديد وهو الأمر الذي تنبه له (المتنبي) الذي وجد في تكرار شعيرة العيد نوع المراجعة الدائمة للنفس. فهل ستمر علينا أعيادنا دائما بنفس الصورة أم ستحمل لنا الجديد. لقد تحدثنا في المقال السابق عن الحج كحالة "لإعادة الولادة" التي تبعث على النقد والإبداع والتصحيح والعيد هو مكمل لهذه الشعيرة الكبيرة التي تحثنا على الفلسفة وعلى التفكير وهو ما يجب علينا التوقف عنده كل عام ليس من أجل ترديد ما قاله المتنبي بل من أجل تأكيد "التجديد" الذي كان المتنبي يتوق له. ربما نحن بحاجة إلى أن نتوقف عند بعض المجددين الذين لم ينالوا فرصة حقيقية في التأثير على مجتمعاتهم ومنهم ابن الرشد الذي لم تكن فرصته كبيرة للوصول إلى العقل العربي في القرن الثاني عشر الميلادي، فقد كانت فترة تراجع وإنحطاط وتشرذم، عصر للفتن والمحن لا لبناء نهضة تقوم على الإيمان والبرهان العقلي. وكأننا كنا نتراجع بقوة من أجل إفساح المجال لأوروبا كي تبني نهضتها المعاصرة والتي كانت بداياتها منذ القرن الخامس عشر. ابن الرشد في كتابه (فصل المقال) منهجه النقدي "التأملي" و"التحليلي" من خلال تعريفه لفعل الفلسفة الذي يعني "أنه ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها، من جهة دلالتها على الصانع بمعرفة صنعتها" ويفسر معنى "الاعتبار" في قول الله تعالي (واعتبروا يا أولي الألباب) بأنه "ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس". ابن الرشد كان علامة فكرية فارقة لم يتوقف عندها (للأسف) علماء ومفكري الإسلام فكانت النتيجة مزيدا من الانغلاق والتراجع. لقد قام ابن الرشد في في دراساته الفلسفية العميقة باتباع منهجين مهمين أحدهما باستخدام الأدلة الشرعية للتعرف على الكون وجمعها في كتابه (مناهج الأدلة) بينما أفرد كتاب (فصل المقال) للدليل البرهاني الكوني للوصول إلى الشريعة فقد كانت قناعته أن لاتناقض بين الشريعة وبين البراهين الكونية فكلاهما يقود للآخر. ويبدو أن هذا المنهج التحليلي النقدي الذي تبنته اوروبا في عصر النهضة (حتى أن ابن الرشد يعد من أشهر الفلاسفة المسلمين عندهم) هو ماكان يفترض بنا أن نتبناه فحتى يومنا هذا مازلنا نقاوم الفلسفة وننبذها ونعتبرها منهج "المتكلمين" الخارجين عن الملة. ولعلي أتوقف هنا عند مجدد معاصر لا أعلم إن كان القارئ قد اطلع على ما كتبه (وأقصد هنا زكي نجيب محمود، رائد الوضعية المنطقية في العالم العربي وهو مفكر عقلاني صاحب تحليل منطقي علمي) فهو ينتمي للنصف الثاني من القرن الماضي وأذكر أنني تعرفت على ما كتبه أثناء دراستي الثانوية عندما قال لي أحد الأصدقاء انه الفيلسوف العربي الوحيد في عصرنا هذا. ويبدو أن درجة "فيلسوف" كانت عظيمة في نظر صاحبي ذاك ولم تكن لها أهمية لدي في ذلك الوقت حتى قمت بقراءة كتبه مرة أخرى هذه الأيام، ولعلي أبدأ بقوله: "لكل كائن على حدة فردية لا يشاركه فيها كائن آخر". وهي بداية مهمة لتمييز الفرد عن الجماعة وتحرر العقل من هيمنة "المجتمع"، خصوصا إذا ما كان هذا المجتمع يدفع بالعقل إلى التسليم المطلق دون إمعان أو تفكير. يرى زكي محمود أنه من الضروري أن تكون لنا مرجعية "إيمانية" و"ثقافية" حتى لو كنا نتبع التفكير المنطقي العلمي لذلك فهو يؤكد هنا أن علاقة الماضي بالحاضر يجب أن تكون علاقة "تنويرية" و"إرشادية" لا محاكاة مطلقة. ويقول هنا: "إذا ما طالبنا أنفسنا بإحياء الماضي إحياء يسري به في جسم الحياة الحاضرة، وإن ذلك المعنى المبهم ليأخذ في الظهور، حين نتصور محاكاة الأواخر للأوائل، على نحو يجعلها محاكاة في "الاتجاه" لا في خطوات السير، محاكاة في "الموقف" لا مادة المشكلات وأساليب حلها، محاكاة في "النظرة" لا في تفصيلات مايقع عليه البصر،... محاكاة في "القيم" التي يقاس عليها ما يصح وما لايصح... وهكذا تكون حالنا إذا ما أستعرنا من الأقدمين "قيمة" عاشوا بها، ونريد اليوم أن نعيش بها مثلهم، لكن الذي نختلف فيه وإياهم، هو المجال الذي ندير عليه تلك القيمة المستعارة" (قيم من التراث، ص 7) ولزكي نجيب محمود رأي مهم في التعبير عن "القيمة" في الفكر الإسلامي على حساب الشكل نفسه عندما تناول موضوع التصوير في الفن الإسلامي فقد أكد على أن المصور العربي يميل "نحو رؤية المجرد العام، غاضا بصره - عن عمد أو غير عمد- عن التفصيلات التي تميز الأفراد" فإذا ما صور شخوصا صورها بشكل تجريدي، حتى أننا نستطيع أن نقول ان "هذا التجريد والتبسيط، يستهدف الأنواع والأجناس، لا الأفراد... انه يستهدف تصوير "الفكرة" وليس تصوير الفرد المتعين الذي يجسدها... ان ثقافتنا العربية التقليدية، محورها "مبادئ" لا "أشياء"، أي أن محورها "أخلاق" لا "جمال...". ويربط هذه الفكرة بما قاله (ماسينون) الذي يرى "أنه لا وجود "للأشياء" في الفكر الإسلامي، والمسلمون في فن التصوير يسقطون الوجوه والملامح لبطلانها". وما يؤكده زكي محمود هنا هو أن الفن العربي الإسلامي "هو فن "فكرة" قبل أن يكون فنا مراده أن يعكس الكائنات على الخامة التي يستخدمها، بكل تفصيلاتها أو ببعضها، على سبيل المحاكاة للمحاكاة ذاتها، وإذا قلنا انه فن "فكرة" فقد قلنا بالتالي انه فن للمبادئ المجردة، لا للمخلوقات المجسدة". ما أود أن أقوله هنا إننا ننتمي إلى دين وثقافة تحث على التفكير ولا تجمد الفكرة في قوالب شكلية الأمر الذي يعني التجدد والحيوية وإعادة الصنع بل والإبداع في الإعادة التي تبتعد عن المحاكاة الكاملة لما سبق صنعه. ما نبحث عنه اليوم هو التوقف عند أفكار المجددين الحقيقيين الذين تركوا لنا تراثا فكريا مهما لم نتعلم منه كثيرا.