يقال إن الفنان فهد بن سعيد - رحمه الله - سجّل أغنيته الشهيرة "خلاص من حبكم" في سطح منزله وباستخدام مسجل عادي في ليلة من ليالي العام 1968.فقد كان وحيداً.. ساهراً في بيته.. عندما جاءه الإلهام، فاستجاب له، صاعداً للسطح، ممسكاً بعوده، وهناك بدأ يدندن كلمات محمد الجنوبي حتى عثر على لحن قديمٍ يناسبها، فركب الكلمات على اللحن، ثم وضع أصبعه على زر المسجل وبدأ في تسجيل واحدة من أكثر الأغاني شهرة في تاريخ الأغنية السعودية. وأنا أميل لتصديق هذه الحكاية لأن الزمان الذي سجلت فيه الأغنية كان زمان البساطة بامتياز، فلم يكن في نجد كلها استوديوهات كبيرة تمتلك أجهزة تسجيل متطورة، إضافة إلى أن الأغاني كانت تلقائية يتم إنشاؤها كلمة ولحناً بشكل عفوي، فكل ما كان على المغني أن يفعله حين يجد في نفسه الحاجة لتسجيل أغنية أن يحمل العود في يد وجهاز التسجيل في يده الثانية ويذهب إلى مكان معزول.. إما فوق السطح كما فعل فهد بن سعيد.. أو في أطراف المدينة.. على قمة جبل.. كما فعل فنانون آخرون. بهذه الطريقة البسيطة تم تسجيل كثير من الأغاني الأسطورية لبشير حمد شنان وعيسى الإحسائي وسلامة العبدالله وخلف بن هذال وعبدالله الصريخ وغيرهم. وإذا أردتَ أن تعرف إلى أي حد كان الإنتاج الفني بسيطاً وبريئاً فما عليك إلا أن تستمع للشاعر الكبير علي القحطاني وهو يتحدث عن تجربته الفريدة والجبارة في أستوديو "الوادي الأخضر" الذي أنشأه في الكويت وجمع فيه أهم نجوم الأغنية الشعبية السعودية منذ مطلع السبعينات. علي القحطاني كان رجل الإنتاج الفني الأول بلا منازع، غنى له بشير والغريب وفهد بن سعيد وعيسى الإحسائي وكل نجوم تلك المرحلة. وهو صاحب تجربة مهمة ومُلهمة تستحق أن توثق في كتاب أو تصور في فيلمٍ يحفظ إسهاماته الكبيرة في مسيرة الأغنية السعودية. إنه تاريخ يمشي على الأرض. ويكفيه نجاحاً أنه لا يمكن تخيل الأغنية الشعبية بدونه أو بدون تسجيلات الوادي الأخضر. يحكي علي القحطاني قصصاً من ذلك الزمن البسيط الجميل ويقول إن "الوادي الأخضر" كان مجرد شقة صغيرة فيها غرفتان مخصصتان للتسجيل؛ الأولى يجتمع فيها المغني مع فرقته وأمامهم مسجل متواضع يقوم بتسجيل الأغنية في كاسيت عادي يكون هو النسخة الأصلية، وفي الغرفة الثانية هناك مسجل أكبر بفتحتين توضع فيه النسخة الأصلية مع كاسيت ثانٍ لتتم عملية النسخ طوال الليل ويبدأ التوزيع في الصباح. ولم تكن هناك عقود ضخمة كالتي نراها الآن إنما اتفاق بين شركة الإنتاج "الوادي الأخضر" وبين الأستريوهات الكبيرة لتنطلق عملية التوزيع.. بِلا حملات دعائية.. ولا لقاءات تلفزيونية. لا شيء سوى محبة الجمهور الذي يسأل ويحرص على متابعة آخر إصدارات نجومه. كل الأغاني الشعبية الخالدة التي ظهرت قبل أربعين وثلاثين سنة صنعت بهذه الطريقة فكانت ثمرة التلقائية ونتاج الصدق. ولو قارنتها بالأغاني الحديثة التي توفرت لها الإمكانات المادية والتقنية لوجدت اختلافاً كبيراً..