تحدثتُ في مقالٍ سابق عن الصرع، الصرع الحقيقي والذي يُعرف علمياً أو طبياً ب (Grand mal Epilepsy) ويحدث هذا النوع من الصرع في أي مكان ويكون عادةً مترافقاً مع بعض الإصابات نتيجة سقوط مريض الصرع في مكانٍ قد يكون غير سليم، وكذلك ربما يتبول أثناء النوبة ويعض لسانه. هناك بعض أنواع الصرع تختلف تماماً عن الصرع الحقيقي، ونحن هنا لسنا في الكتابة عن أنواع الصرع بل للحديث عن نوع خاص من الصرع يُطلق عليه الصرع الهستيري، وهو نوع من الصرع ليس فيه اختلال في الموجات الكهربائية أو أي سبب عضوي لحدوث الصرع، ويحدث عادة نتيجةً لأسباب نفسية ويقع هذا الصرع دون قصدٍ من المريض ولكن نتيجة اللا وعي ورغبةً في الحصول على منافع ثانوية كما هي الحالات التي تندرج تحت اضطراب التحوّل الذي يكون الصرع الهستيري واحد من هذه الاضطرابات التحولية. ما دفعني لكتابة هذا المقال هو حدوث صرع لسيدة في أحد المساجد الكبيرة في الرياض، التي يُصلى فيها على الأموات قبل نقلهم إلى المقابر ودفنهم. بعد أن صلى الإمام على مجموعة من الأموات - نظراً لكِبر هذا المسجد- وبدأ السيدات في مغادرة المسجد، فؤجئ الجميع بسيدة تقع في المسجد ولكنها لم تكن نوبة صرع حقيقية وإنما وقعت بهدوء، ولم ترتطم ارتطاماً بالأرض، أخذت تقوم ببعض الحركات التي جعلت جمعاً لا يُستهان به من السيدات يُصبن بالهلع والخوف الشديد، خاصةً وأن الموقف كان موقف وفاة لنساء جئن للصلاة على أقارب لهن. بعد لحظات بدأت هذه السيدة بالهذيان، فلحظات كانت تقرأ قرآن وثم تبدأ في الغناء مما أثار دهشة المجتمعات في المسجد وكذلك خوف الكثير منهن، وإحتمع حولها ثلةٌ من النساء يقرأن عليها القرآن وهن يرُددن بأن هذا الصرع هو نتيجة الجن! وحاولت بعض النساء إخراج الجن من السيدة الملقاة على الأرض، ولا شك بأن الثقافة السائدة كان لها دور كبير في نسبة سقوط هذه السيدة وصرعها إلى أنها نتيجة لتلبس الجن وصرعها بسبب الجن. المشكلة بأن حُسن النية ليس كافياً للتعامل مع مثل هذه الحالات، فقد يقود محاولة إخراج الجن من السيدة إلى إيذائها بالضرب لمحاولة إخراج الجني أو ربما خنقها سواءً بمحاولة إخراج الجن أو بالتجّمع عليها ومنع التنفس عنها. كما قلتُ في مقدمة المقال بأن الصرع أنواعاً كثيرة، وربما يكون الصرع الهستيري من الأنواع التي نقابلها أكثر، لأن الشخص الذي يُعاني من الصرع الهستيري دائماً يُصاب بنوبة الصرع أمام الآخرين، وليس عندما يكون وحيداً أو عندما يكون مثلاً نائماً. عادةً يكون هناك مكسب ثانوي من الصرع الهستيري مثل أن يتخلص من موقف مُعين أو أن يكسب عطف الآخرين أو يتخلص من مشكلة داخلية. أعود إلى السيدة التي صُرعت في المسجد الكبير الذي يُصلى فيه على الموتى، وعادةً يكون هناك أكثر من شخص خاصةً في صلاة العصر، حيث أكثر الموتي يُصلى عليهم بعد صلاة العصر، ونظراً لوجود مكان مستقل للنساء للصلاة في هذا المسجد الضخم - جزى الله من بنى هذا المسجد كل الخير وبارك له في ماله وصحته واولاده - فحدوث مثل هذا الصرع لإمرأة بتلك الطريقة وفي مثل هذا المسجد المزدحم دائماً، خاصةً بعد الصلوات على الموتى، يجب أن يكون هناك وعياً بأن هذا الصرع ليس صرعاً حقيقياً، وعلى السيدات أن يتركن السيدة التي صُرعت في مساحة مفتوحة بحيث تتنفس بهدوء، وأن لا يُخفن الأخريات من أن هذا الصرع نتيجة الجن، ويبدأ بعض النسوة - بحُسن نية - في الحديث عن القبر وعن فلان الذي مات وحدث له قصص كثيرة لإخافة النسوة من الموت. يجب أن تُعامل مثل هذه المرأة التي صُرعت بإنسانية وكرامة، بحيث تؤخذ إلى مكان بعيد عن جموع نساء أقارب الموتى واللاتي يكن في حالةٍ نفسية ليست جيدة، فيكن في حزنٍ ووهن خاصةً عندما يكون المتوفى قريباً لبعض السيدات اللاتي يكن في حالة حزنٍ شديد مما يزدهن اضطراباً وكآبةً. يجب ألا يقوم بعض السيدات بتخويف السيدات الآخريات من الموت والقبر، فالدين ليس بالتخويف ولكن بالمحبة. فالحب في الدين أهم وأفضل من التخويف، ويجب أن يكون الدعاء بالحُسنى وبهدوء والبُعد عن الخوف من أشياء قد لا تكون من الدين ويكون نتيجة ذلك عكسياً بحيث يكون الخوف من الأشياء التي يقولها بعض السيدات الداعيات بحواديث مُخيفة لجعل الحاضرات يلتزمن أكثر بالأمور الدينية. إن استغلال حوادث مثل التي حدثت في ذلك المسجد وبأن الجن يصرع البشر وهو لم يثبت دينياً بأن هذا يحدث، وقد سمعت هذا الكلام من بعض طلبة العلم المتنورين والذين يعرفون الصرع وما يستطيع الجن أن يفعله بالبشر. مريض الصرع إن هناك جمعيات في المملكة العربية السعودية تعنى بمرض الصرع وتثقيف العامة عن مرض الصرع وكيفية التعامل مع مريض الصرع وماهو مرض الصرع، وأعتقد بأن هذا العمل الإنساني من أروع الأعمال التي يقوم جماعة من المختصين بأمراض الصرع حيث يشرحون للعامة ماهو مرض الصرع وأسبابه وعلاجه، وهذا يخلق فرقاً في فهم مرض الصرع والذي ينتشر بين عامة الناس حيث تُشير الدراسات بأن معدل الإصابة بمرض الصرع بين عامة الناس يصل إلى 2%، وأرجو أن يكون هذا الرقم حقيقياً حتى لا يُبالغ في مرض الصرع وإنما يؤخذ بشكلٍ جاد، ويُهتم بعلاج مرض الصرع حيث أن الاستمرار بتناول أدوية الصرع أمر في غاية الأهمية، لأن الصرع مرض مزُمن ويجب أن يتم التأكد من التشخيص من مرض الصرع ونوع هذا الصرع وإتباع التعليمات التي يطلب الطبيب المُعالج من المريض اتباعها، خاصةً فيما يتعلق بتعاطي الأدوية، وأن نحاول أن نتعاطى مع مرض الصرع بأنه مرض عضوي مثل بقية الأمراض وأنه نتيجة لاختلالات عضوية في الدماغ، وإن هناك أسباباً كثيرة لمرض الصرع، وإن الجن أو الأسباب الغيبية الآخرى ليست لها دور في مرض الصرع بل إنه مرض عضوي يستجيب لأدوية مُخصصة لعلاج هذا المرض. ما يؤسف له بأن بعض مرضى الصرع لا يذهبون إلى الأطباء لتشخيص وعلاج المرض، وإنما يذهبون لأطباء شعبيون يحاولون مُعالجة الصرع عن طريق أنه بسبب دخول الجن ويحاول أن يُخرج الجن حتى يشفى المريض من المرض، وربما ألحق ضرراً بدنياً بالمريض، ولا يُعالج المرض ويبقى المريض يُعاني من مرض الصرع وهذا أمرٌ يؤسف له، حيث يجب أن يذهب الأهل بأبنائهم إلى الأطباء سواءً كانوا أطباء اسرة أو أطباء متخصصين في أمراض الأعصاب. أرجو أن يكون هذا المقال مفيداً لأفراد المجتمع والشفاء دائماً بإذن الله وما الطبيب إلا وسيلة للعلاج سخّره الله ومنحه ويسّر له العلم حتى يُفيد المجتمع والمرضى الخطيرة مثل مرض الصرع.