ظل الصراع بين الخير والشر ومازال يكدر صفو الحياة وظل التاريخ ومازال يروي مفارقات الاتفاق والاختلاف بين بني البشر واثرهما على الأمن والاستقرار والتقدم والرخا،ء وظل الفرق واضحاً بين من يبني وبين من يهدم، فالتاريخ يروي ان العقلاء يتحاورون من اجل حل المشاكل المستجدة والعالقة وهم يصلون إلى بغيتهم وينجزون مهمتهم من دون إراقة دماء ومن دون دمار وخراب، لذلك سجل هؤلاء على أنهم بناة الحضارة ورواد ازدهارها. أما الأقل عقلانية فإنهم يتشاجرون ويحتدم الشجار بينهم عندما يحاول بعضهم فرض أجندته وروئيه على الآخرين. من هذا المنطلق نجد أن ثقافة الاختلاف التي لا يسودها حوار تزدهر في الأجواء التي يتحكم فيها قليلو الحكمة والروية وكثيرو الهوى والتعصب. وقد بليت البشرية بقادة من هذا النوع على مر العصور، حيث كان سبب الحروب والدمار في كثير من الأحيان التطرف والطمع والتعصب الأعمى الذي يؤدي إلى أن يستلم العلم المجانين والمتهورون، ومثل هؤلاء هم من يحول ثقافة الاختلاف إلى صراع دام، يفرض فيه القوى هيمنته على الأقل قوة وهذا من أجل تحقيق أحلام ونزوات مجموعات متطرفة تسعى من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية أو عسكرية أو ايدلوجية على حساب الآخرين توجهها في الغالب قوى تحكم من خلف الكواليس. نعم إن الأمن والسلام العالمي يتعرضان هذه الأيام للتهديد وذلك من خلال سعي قوى محددة الى تحويل ثقافة الاختلاف إلى صراع من خلال إلصاق التهم وتشويه السمعة والاصطياد في الماء العكر ودعم ذلك مادياً ومعنوياً لكل روافد الإرهاب والتطرف والانشقاق والتعصب وبث روح الطائفية والإقليمية وإثارة مشاكل الحدود والأقليات، ولعل ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط خير شاهد على ذلك، مما يعني أن تلك المنطقة مستهدفة في ثرواتها وأرضها وجغرافيتها وسكانها وثقافتها ومبادئها من قبل تلك القوى التي تمثلها بصورة علنية إسرائيل والقوى الداعمة لها أو بصورة متوارية من خلال الدعم اللوجستي. نعم ظل العالم العربي والإسلامي يدفع ثمن ثقافة الاختلاف وظل الجانب المعادي الذي يمثل أقلية في بلاد الغرب ولكنه يملك القدرة المادية والإعلامية التي جعلته يتحكم بثقافة ومسلمات تلك الشعوب من خلال حقنها بمعلومات مغلوطة ومشوهة.. وقد استخدم لهذا الغرض وسائل الإعلام واستأجر كتاباً ومحللين ومحرضين مدفوعي الأجر مقدماً. وقد ظل الأمر دواليك على هذا النحو حتى من قبل ظهور كتاب سلمان رشدي وحتى بعد ظهور نظرية هندنجتون عن صراع الحضارات وتصور فاكوياما لنهاية التاريخ وما عقب ذلك من نشر للصور الكرتونية عن النبي الأعظم وما رافق ذلك من نشر للإرهاب ودعمه ومحاولة شق الوحدة الوطنية في عديد من الدول العربية والإسلامية ناهيك عن الحروب المباشرة والمكشوفة. وظل التآمر يدار داخل الوطن العربي الإسلامي وضدهما من جانب واحد بينما الضحية ظلت تندد وتشجب أو تدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور دون قوة تعمه ناهيك عن اللجوء الى الخصم والحكم حتى جاء فارس الحوار وصاحب المبادرات الخلاقة الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله الذي أسس للحوار وعلى أربع مراحل متتالية بدأت بالرياض ثم مكةالمكرمة ثم توسعت رقعة الحوار لتصل إلى مدريد ثم أصبحت شاملة أممية في نيويورك، ولعل أهم معالم تلك المراحل ما يلي: @ مرحلة الحوار الوطني حيث تم انشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني الذي تبنى أسلوب الحوار لمناقشة ودراسة وحل كل المشاكل العالقة والمستجدة التي تحتاج إلى رأي جماعي يؤسس لحل متفق عليه، ومن الجدير بالذكر أن ذلك الحوار يشترك فيه المثقفون والمتخصصون والمهتمون من أصحاب الرأي والحل والعقد على اختلاف توجهاتهم ومواقفهم وهذا يضمن مشاركة الجميع وتلاقح آرائهم وهذا يضمن الشمولية والمصداقية وبذلك يحقق نتيجة إيجابية تتمثل في تبني توصيات متفق عليها. ومن الجدير بالذكر أيضاً ان ذلك الحوار يعقد بصورة دورية وبالتناوب بين مدن ومناطق المملكة وذلك لضمان التغطية والمشاركة من قبل أكبر عدد ممكن من أبناء الوطن. @ المرحلة الثانية مرحلة الحوار الإسلامي الذي عقد في مكةالمكرمة والذي حضره زعماء الدول الإسلامية وعلماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم والذي افتتحه خادم الحرمين الشريفين بكلمة وافية وظافية تعبر عما يكنه من حب للإخاء والتوحد ونبذ الخلافات وفتح صفحة جديدة في العمل الإسلامي. @ المرحلة الثالثة جاءت على شكل تجمع دولي للحوار الأديان في مدريد والذي نظم بدعوة من منظمة المؤتمر الإسلامي بتوجيه كريم من الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله وذلك ادراكاً منه أن السبيل الوحيد لتحييد تلك الهجمة المبرمجة هو الحوار بين اتباع الديانات والثقافات المختلفة سوف ينزع زمام المبادرة من أيدي المتطرفين ويضعها في أيدي القادة وأصحاب الفكر والعقل والمنطق الذين سوف يستخدمون فكرهم وثقافتهم وعقولهم وسلطتهم في بناء حوار مفيد وخلاق يعمل على حل المشاكل العالقة والمستجدة بالتي هي أحسن في نفس الوقت يحاصر ويحجم الغلو والتطرف والتسلط والفوقية والعنصرية أياً كان مصدرها ناهيك عن أن الحوار سوف يكشف أن تلك الممارسات والشعارات الجوفاء إلى زوال. نعم إن حوار الأديان الذي عقد في مدريد في شهر مايو الماضي كان من أهم الأحداث، وذلك لأنه بداية لتأسيس منطلقات جديدة تفرض التقارب من خلال جعل الحوار وسيلة لحل المشكلات بدلاً من فوهات البنادق. @ في المرحلة الثالثة تطور مفهوم الحوار ليشمل معاني أخرى فأصبح حوار الأديان وثقافة السلام.. ولا نشك أبداً ان هذا الوافد الجديد على العالم والذي احتضنه وتبناه ودعا إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله سوف يشب ويكبر وتتفرع معانيه ومفاهيمه لتشمل كل ما يثبت العدل وينشر المساواة ويرفع الظلم ويحق الحق ويحيي الأمل بمستقبل مشرق للإنسانية جمعاء على اختلاف دياناتها وثقافاتها وانتماءاتها. إن انعقاد حوار الأديان وثقافة السلام في أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة له دلالة أممية ذلك ان الحوار الذي أطلقه الملك عبدالله على المستوى الوطني في المملكة تم نقله إلى المستوى الدولي في مؤتمر مدريد وبعد ذلك تبناه العالم واصبح من أهم معالم المرحلة القادمة التي تتطلع لها البشرية بأمل وشوق. نعم إن انعقاد مؤتمر الحوار وثقافة السلام في أروقة الأممالمتحدة يعني ان هذه المنظمة مدعوة إلى إصدار وثيقة دولية مقننة تنظر وتنظم حل المشكلات الدولية عن طريق الحوار وتكون ملزمة بحيث لا يمكن تجاوزها أو التحايل عليها على أن تكون آراء واقتراحات خادم الحرمين الشريفين حفظه الله من أهم بنودها التي جاءت في خطابيه اللذين افتتح بهما كلاً من مؤتمر مدريد ومؤتمر نيويورك واللذين جاء فيهما ما يلي: @ فتح صفحة جديدة بين الديانات ملؤها المحبة والصدق والإصرار على الحوار الصادق الذي يرسي أسس التعاون والاخاء ويقوي دعائم الأمن والسلام العالميين اللذين ينشدهما كل صاحب عقل وفكر سليم. @ إن الاختلاف لا ينبغي أن يؤدي إلى النزاع والصراع مهما كانت المبررات ذلك أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. @ إن حوار الأديان وثقافة السلام وسائل فعالة لانفراج الأزمة العالمية الحرجة التي تمر بها البشرية هذه الأيام. @ التركيز في القواسم المشتركة يوحد ولا يفرق، ويبني ولا يهدم وهو يصفي النفوس ويبني الثقة التي تعتبر المفتاح الرئيس لزحزحة وحلحلة وخلخلة الفوارق والمشاكل الناجمة عن الخلاف المفتعل بسبب التحريض والتشويه والاستغفال المتعمد. @ إن التطرف وضياع القيم والتباس المفاهيم هو سبب المعاناة والمآسي التي تعاني منها البشرية اليوم وليس السبب اختلاف الأديان والثقافات. @ إن سبب فشل جميع الحوارات السابقة هو التركيز في الفوارق والاختلافات مع وجود من يضخمها ولذلك جاءت عقيمة وغير مفيدة. نعم لقد رسم خادم الحرمين الشريفين في كلماته أمام مؤتمر مدريد وأمام الاجتماع عالي المستوى للحوار بين الأديان والثقافات والحضارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة خريطة طريق تخلص العالم والبشرية من الظلم والخوف والفقر وتزرع مبادئ العدل والتسامح والاحترام المتبادل والتكافل والتعاون وكل ذلك يتحقق إذ انتصر جانب الخير على جانب الشر في التكوين البشري. وقد أشار حفظه الله إلى أن اهتمام المملكة بالحوار والأمن والسلام العالمي نابع من الدين والقيم الإسلامية التي تدعو إلى الألفة والمحبة والتعاون والاخاء والاحترام المتبادل. إن الملك عبدالله حفظه الله بدعوته إلى الحوار على المستوى الوطني والعالمي أعطى إشارة البدء للقضاء على التطرف من خلال نشر ثقافة الحوار وتعزيزه بين الأمم وهذا كفيل بازالة سوء الفهم الذي يعتمد عليه الذين يصطادون في المياه العكرة.. إن العالم اليوم أحوج ما يكون إلى مبادرات بحجم وثقل مبادرة الملك عبدالله - حفظه الله - لأن مثل تلك المبادرة تمثل بكل صدق وأمانة ضمانة للأمن والسلام العالميين إذا صدقت النوايا والتوجهات. إن مؤتمرات الحوار بين الأديان وزرع ثقافة السلام تحقق مبادئ إسلامية راسخة جاءت في محكم التنزيل من خلال قوله تعالى: (قل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) الآية.. وقوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) الآية، وقوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) الآية وقوله تعالى "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" الآية.. وعلى العموم فإن نتائج تلك المؤتمرات وتوصياتها كانت على مستوى الحدث ومتناغمة مع التوجهات التي تؤمن بها الشعوب بعيداً عن ممارسات قوى الجشع والطمع والكراهية والعدوان. لقد كان وسوف يظل دور الملك عبدالله - حفظه الله - في بناء، جسور المحبة ورأب الصدع في العلاقات الدولية مهماً وبناءً فالحوار جزء لا يتجزأ من منهجيته وفكره وتطلعاته لذلك فهو يستحق لقب رائد الحوار الأول على المستوى الوطني والمستوى العالمي.. ولاشك ان الحوار البناء يحتاج أن ترصد له جائزة كبيرة وعظيمة تحمل اسم جائزة الملك عبدالله للحوار وثقافة السلام.. كما انه يستحق حفظه الله أن يمنح جائزة نوبل للسلام وذلك عرفاً بجهوده الخيرة في سبيل تحقيق العدل والسلام والتعايش السلمي بين الأمم والله المستعان.