من أطهر بقاع الأرض انطلقت الكلمة حاملة دعوة صادقة إلى كل أركان الأرض، كلمة سواء ظاهرها الحق وباطنها الإخلاص والخلاص للبشرية من خلاف واختلاف عصف بها عبر عقود من الزمن ذاقت فيها ويلات الحروب والدمار والتخلف والتسلط من الإنسان على أخيه الإنسان. وجاءت الدعوة من مهبط الوحي من مكةالمكرمة لتكون أساس الانطلاق إلى فضاء رحب لم يقتصر على أمة دون أمة ولا على عرق دون عرق ولا لون دون لون بل شمل كل البشر على اختلاف انتماءاتهم واتجاهاتهم العقدية والفكرية. الدلالة المنطقية لبدء دعوة الحوار من مكةالمكرمة تؤكد أن موضوع الحوار أخذ الكثير من الوقت والجهد والتخطيط الاستراتيجي لتسلسل انطلاق دعوة الحوار العالمية، فلم يكن من المعقول أن نطلق دعوة عالمية لحوار الأديان والثقافات دون أن يكون هناك حوار بيننا كأمة إسلامية فيها العديد من المذاهب لا تختلف في جوهرها بقدر ما تختلف في تفاصيل أحكامها. من هذا المنطلق جاء المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين من الرحاب الطاهرة بكلمات وضعت أساساً متيناً لانطلاقة غير مسبوقة، كسرت حواجز التقوقع حول الذات ورسخت فكراً عميقاً يقود الأمة إلى أفق أوسع في قرن جديد: من مهبط الوحي، وأرض الرسالة، أرحب بكم أكرم ترحيب، سائلاً المولى - عز وجل - أن يمدنا بعزم لا يلين، وقوة لا وهن معها، وأن يجعلنا ممن قال عنهم (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم). إنكم تجتمعون اليوم لتقولوا للعالم من حولنا، وباعتزاز أكرمنا الله به، إننا صوت عدل، وقيم إنسانية أخلاقية، وإننا صوت تعايش وحوار عاقل وعادل، صوت حكمة وموعظة وجدال بالتي هي أحسن تلبية لقوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وإنا - إن شاء الله - لفاعلون. ما أعظم قدر هذه الأمة، وما أصعب تحدياتها في زمن تداعى الأعداء من أهل الغلو والتطرف من أبنائها وغيرهم على عدل منهجها. تداعوا بعدوانية سافرة، استهدفت سماحة الإسلام وعدله وغاياته السامية. ولهذا جاءت دعوة أخيكم لمواجهة تحديات الانغلاق، والجهل، وضيق الأفق، ليستوعب العالم مفاهيم وآفاق رسالة الإسلام الخيرة دون عداوة واستعداء (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). سيبقى الإسلام منيعاً بالله - جل جلاله - ثم بوعي علمائه ومفكريه وأبنائه، فعظمة الإسلام أسست لمفاهيم الحوار، وحددت معالم الطريق له، يتجلى ذلك في قوله تعالى (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك). وقلوبنا - بحمد الله - مليئة بالإيمان والتسامح والمحبة، التي أمرنا بها الخالق - جل جلاله -. نعم - أيها الإخوة الكرام - سيكون الطريق للآخر من خلال القيم المشتركة التي دعت إليها الرسالات الإلهية، والتي أنزلت من الرب - عز وجل - وتعالى، لما فيه خير الإنسان والحفاظ على كرامته، وتعزيز قيم الأخلاق، والتعاملات التي لا تستقيم والخداع، تلك القيم التي تنبذ الخيانة، وتنفر من الجريمة، وتحارب الإرهاب، وتحتقر الكذب وتؤسس لمكارم الأخلاق والصدق والأمانة والعدل، وتعزز مفاهيم وقيم الأسرة وتماسكها وأخلاقياتها التي جار عليها هذا العصر وتفككت روابطها، وابتعد الإنسان فيه عن ربه وتعاليم دينه. من جوار بيت الله الحرام بدأنا، ومنه - بإذن الله - سننطلق في حوارنا مع الآخر بثقة نستمدها من إيماننا بالله ثم بعلم نأخذه من سماحة ديننا، وسنجادل بالتي هي أحسن، فما اتفقنا عليه أنزلناه مكانه الكريم في نفوسنا، وما اختلفنا حوله نحيله إلى قوله سبحانه وتعالى (لكم دينكم ولي دين). هذه الكلمات الصادرة من القلب إلى القلب، من محبة الإنسان لأخيه الإنسان اعطت أملاً كبيراً وثقة مؤكدة. إن أمتنا الإسلامية لا زالت بخير، لا زال فيها رجال يزودون عن حياضها بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن كما أمرنا خالقنا عز وجل، رجالٌ وضعوا مستقبل الأمة على طريق الأمل للأجيال القادمة، نقلونا من مواقع الدفاع عن معتقداتنا إلى مواقع الحوار مع نظرائنا من مختلف الأديان والمعتقدات، انتشلونا من براثن الخوف والقلق والمدارة إلى قمة الحوار بالمنطق المدعوم بالحجج البينة وقوة الحق المبين. ثم جاءت المرحلة الثانية من خطة الانطلاق لنجد أن العالم مستعد لسماعنا، مستعد لأن يحاورنا ونحاوره دون غالب ولا مغلوب، يرى ما بأيدينا ونرى ما عنده، وبهذا فنحن لم نبدع ولم نبتكر ولكننا نؤصل لمبدأ إسلامي كان معطلاً ذاك هو الحوار، الحوار ليس بيننا كأبناء أمة إسلامية فقط ولكن كأبناء أمة عالمية تختلف فيها المشارب والأهواء. في مدريد فتح العالم عيونه على حدث جلل تمثل في اجتماع أبناء الأمم في مكان واحد تجمعهم الرغبة في التقارب والتعرف على الآخر دون قرارات مسبقة ولا طروحات معلبة، بل كانت اجتماعات الفكر بالفكر ومن قلب مفتوح إلى قلوب مفتوحة مستعدة لأن تسمع وتحاور وتناقش دون المساس بالمعتقد أياً كان. وكانت كلمة الملك عبدالله في المؤتمر العالمي للحوار خطة عمل وضعت جدول أعمال للبشرية أن تبدأ مرحلة جديدة من حوار مستنير لم تعرفه من قبل: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله القائل في محكم كتابه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم). والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى كافة الأنبياء والمرسلين. أحييكم وأشكر لكم تلبية دعوتنا هذه للحوار وأقدر لكم ما تبذلونه من جهد في خدمة الإنسانية، متوجهاً بالامتنان العميق لصديقنا جلالة الملك خوان كارلوس، ومملكة أسبانيا وشعبها الصديق، على الترحيب بعقد هذا المؤتمر على أرضهم التي حملت ميراثاً تاريخياً وحضارياً بين اتباع الديانات، وشهدت تعايشاً بين البشر على اختلاف أجناسهم وأديانهم وثقافاتهم وشاركت مع بقية الحضارات الأخرى في تطور الحياة الإنسانية. جئتكم من مهوى قلوب المسلمين، من بلاد الحرمين الشريفين حاملاً معي رسالة من الأمة الإسلامية، ممثلة في علمائها ومفكريها الذين اجتمعوا مؤخراً في رحاب بيت الله الحرام، رسالة تعلن أن الإسلام هو دين الاعتدال والوسطية والتسامح، رسالة تدعو إلى الحوار البناء بين اتباع الأديان، رسالة تبشر الإنسانية بفتح صفحة جديدة يحل فيها الوئام بإذن الله محل الصراع. إننا جميعاً نؤمن برب واحد، بعث الرسل لخير البشرية في الدنيا والآخرة واقتضت حكمته سبحانه أن يختلف الناس في أديانهم، ولو شاء لجمع البشر على دين واحد، ونحن نجتمع اليوم لنؤكد أن الأديان التي أرادها الله لإسعاد البشر يجب أن تكون وسيلة لسعادتهم. لذلك علينا أن نعلن للعالم أن الاختلاف لا ينبغي أن يؤدي إلى النزاع والصراع، ونقول إن المآسي التي مرت في تاريخ البشر لم تكن بسبب الأديان، ولكن بسبب التطرف الذي ابتلي به بعض اتباع كل دين سماوي، وكل عقيدة سياسية. إن البشرية اليوم تعاني من ضياع القيم والتباس المفاهيم، وتمر بفترة حرجة تشهد بالرغم من كل التقدم العلمي تفشي الجرائم، وتنامي الإرهاب وتفكك الأسرة، وانتهاك المخدرات لعقول الشباب، واستغلال الأقوياء للفقراء، والنزعات العنصرية البغيضة، وهذه كلها نتائج للفراغ الروحي الذي يعاني منه الناس بعد أن نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولا مخرج لنا إلا بالالتقاء على كلمة سواء، عبر الحوار بين الأديان والحضارات. لقد فشلت معظم الحوارات في الماضي لأنها تحولت إلى تراشق يركز على الفوارق ويضخمها، وهذا مجهود عقيم يزيد التوترات ولا يخفف من حدتها، أو لأنها حاولت صهر الأديان والمذاهب بحجة التقريب بينها وهذا بدوره مجهود عقيم فأصحاب كل دين مقتنعون بعقيدتهم ولا يقبلون عنها بديلاً، وإذا كنا نريد لهذا اللقاء التاريخي أن ينجح فلابد أن نتوجه إلى القواسم المشتركة التي تجمع بيننا، وهي الإيمان العميق بالله والمبادئ النبيلة والأخلاق العالية التي تمثل جوهر الديانات. إن الإنسان قد يكون سبباً في تدمير هذا الكوكب بكل ما فيه، وهو قادر أيضاً على جعله واحة سلام واطمئنان يتعايش فيه اتباع الأديان والمذاهب والفلسفات، ويتعاون الناس فيه مع بعضهم بعضاً باحترام، ويواجهون المشاكل بالحوار لا بالعنف. إن هذا الإنسان قادر بعون الله على أن يهزم الكراهية بالمحبة، والتعصب بالتسامح، وأن يجعل جميع البشر يتمتعون بالكرامة التي هي تكريم من الرب - جل شأنه - لبني آدم أجمعين. ليكن حوارنا مناصرة للإيمان في وجه الإلحاد، والفضيلة في مواجهة الرذيلة، والعدالة في مواجهة الظلم، والسلام في مواجهة الصراعات والحروب، والأخوة البشرية في مواجهة العنصرية. هذا وبالله بدأنا، وبه نستعين، ولكم مني خالص التحية والتقدير. ثم ألقى الملك خوان كارلوس الأول كلمة رحب فيها بخادم الحرمين الشريفين الملك عبداله بن عبدالعزيز آل سعود مثمناً الزيارة التي قام بها - أيده الله - لمملكة أسبانيا العام الماضي. وقال: "إننا نعلم يا خادم الحرمين الشريفين الأهمية التي تولونها لهذا المؤتمر الذي نأمل له نجاحاً كبيراً". وأضاف: "إن أسبانيا لديها معرفة كبيرة وثرية لهذا المفترق من الطرق والثقافات والديانات، إنها بلد بنى ديمقراطيته على التسامح والتعايش والاحترام المتبادل". وأشار إلى دعم أسبانيا الدائم والمستمر لمسيرة السلام في الشرق الأوسط ولمسيرة الحوار في البحر الأبيض المتوسط. وأكد جلالته أن أسبانيا من ولم تقف الدعوة المسؤولة لخادم الحرمين الشريفين بعد الأصداء التي لم يشهد لها العالم مثيلاً عند حد اجتماع مدريد وتوصياته، بل كان لا بد لها من فضاء يستطيع التعامل معها لتكون مبدأ إنسانياً راسخاً في التعامل المستقبلي بين الأمم، دعوة تستبدل الصراعات والحروب واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان تحت مسميات مختلفة برقي فكري يسمو بالإنسانية إلى درجات عالية من الرقي والعزة والكرامة. انطلقت دعوة الحوار العالمي لتصل إلى أكبر منبر أممي يجمع البشر تحت سقف واحد، إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتكون هدفاً من أسمى الأهداف التي تبنت منذ إنشائها، ولتكون منبراً ينطلق منه الحق بدءاً من الرحاب الطاهرة المقدسة ليصل إلى مسامع العالم وليوقظه من سبات طال المكوث فيه، وكانت الكلمة التي جاءت على قدر الحدث ومواكبة لانطلاقته العالمية. أمام هذا الجمع من قادة العالم، ومن الجمعية العامة ضمير الأممالمتحدة، نقول اليوم بصوت واحد أن الأديان التي أراد بها الله عز وجل اسعاد البشر لا ينبغي أن تكون من أسباب شقائهم، وأن الإنسان نظير الإنسان وشريكاً على هذا الكوكب، فإما أن يعيشا معاً في سلام وصفاء وإما أن ينتهيا بنيران سوء الفهم والحقد والكراهية. إن التركيز عبر التاريخ على نقاط الخلاف بين اتباع الأديان والثقافات قاد إلى التعصب وبسبب ذلك قامت حروب مدمرة سالت فيها دماء كثيرة لم يكن لها مبرر من منطق أو فكر سليم، وقد آن الأوان أن نتعلم من دروس الماضي القاسية، وأن نجتمع على الأخلاق والمثل العليا التي نؤمن بها جميعاً، وما نختلف عليه سيفصل فيه الرب، سبحانه وتعالى، يوم الحساب، إن كل مأساة يشهدها العالم اليوم ناتجة عن التخلي عن مبدأ عظيم من المبادئ التي نادت بها كل الأديان والثقافات فمشاكل العالم كلها لا تعني سوى تنكر البشر لمبدأ العدالة. إن الإرهاب والإجرام أعداء الله، وأعداء كل دين وحضارة. وما كانوا ليظهروا لولا غياب مبدأ التسامح، والضياع الذي يلف حياة كثير من الشباب، كما أن المخدرات والجريمة، لم تنتشر إلا بعد انهيار روابط الأسرة التي أرادها الله عزَّ وجل ثابتة قوية. إن حوارنا الذي سيتم بطريقة حضارية كفيل - بإذن الله - بإحياء القيم السامية، وترسيخها في نفوس الشعوب والأمم.. ولا شك بإذن الله ان ذلك سوف يمثل انتصاراً باهراً لأحسن ما في الإنسان على أسوأ ما فيه، ويمنح الإنسانية الأمل في مستقبل يسود فيه العدل والأمن والحياة الكريمة على الظلم والخوف والفقر. أيها الأصدقاء: أشكر معالي رئيس الجمعية العامة على تنظيم هذا اللقاء، وأشكر أصدقائي من زعماء العالم وقادته على حضورهم من مشارق الأرض ومغاربها، معتزاً بصداقتهم ومشاركتهم، واسمحوا لي أن أدعو المتحاورين في مدريد إلى اختيار لجنة منهم تتولى مسؤولية الحوار في الأيام والأعوام القادمة.. مؤكداً أنهم ولمختلف دول شعوب العالم ان اهتمامنا بالحوار ينطلق من ديننا وقيمنا الإسلامية، وخوفنا على العالم الإنساني.. وإننا سنتابع ما بدأنا، وسنمد أيدينا لكل محبي السلام والعدل والتسامح. وختاماً أذكركم ونفسي بما جاء في القرآن الكريم (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تلك الكلمات في ثلاثة أماكن مختلفة من العالم انطلقت من مكةالمكرمة وأنارت الطريق في مدريد ورسخت مفاهيم الإنسانية في نيويورك يجب علينا أن نعتبرها منهجاً علينا السير - كبشر - في ركابه، وان لا نتوقف عند حدود النهاية، بل هي البداية فقط ليس من أجلنا كعرب وكمسلمين ولكن كبشر عانينا ولعقود طويلة من الزمن من كوارث صنعها الإنسان قادها الجشع والطمع والبعد عن انوار الحق البين. مؤتمرات الحوار هي بداية عصر جديد تعيشه الإنسانية وعليها انهل من مناهلها والاستزادة من عمق مقصدها وشرف ونبل هدفها على الأمة كافة إذا كانت مهتمة بالعيش في عالم أفضل أن نتعامل مع دعوة الحوار كأساس للعيش الإنساني المشترك من أجل عام أفضل للأجيال القادمة.